الفصل الخامس

362 41 19
                                    

استيقظت اليوم التالي على مضض، أشعر بالمرض حتى في نخاع عظامي. ولمَ يجب أن اتفاجأ؟ امر طبيعي لشخص لم يأكل أو يروي عطشه منذ يومان.
لا أشعر بأي أدنى رغبة للتحرك من مكاني أو الاعتدال في جلستي. كنت مستلقية على جنبي الأيمن أخذت اتأمل بحركة النمل وهو يعبر من أمامي، يجاهد في حمل طعامه.
تنهيدة عميقة.
اشعر بأني على وشك الانتهاء. كأن مدة صلاحية عيشي على هذا الكوكب قد انتهت منذ يومان وبدأت اتعفن.
اشعة الشمس بدأت بالتسلق للأفق تزاحم طريقها سحب قطنية صغيرة. أشعر بالسلام الداخلي مع وخزات في معدتي. لا أعلم كيف أو لماذا كنت أشعر بالاندماج مع الطبيعة وكأني قد اصبحت جزءاً من التربة. أهكذا شعور قرب الموت؟ لا أعلم.
اغمضت عيناي.
١٨ سنة من حياتي، ٦٤٠٨ يوم أشعر وكأنها ذهبت مع مهب الريح. هل كنت ما أريد أن أكونه؟ هل أعلم ماذا أريد أن أصبح؟ ١٨ سنة ولا أعلم من أنا إلى الآن.
مالذي يجعل منى منى؟ من أنا؟ نسخة من والداي؟ تراكم أفكار أصدقائي؟ أين أرى نفسي في المستقبل؟
اوه مستقبل؟ مضحك. مضحك.
لايوجد مستقبل، استيقظي منى! مستقبلك ينتهي هنا، بجانب جحر نمل.
وخزات معدتي بدأت بالازدياد فتقلصت حول نفسي كما جنينٍ في بطن أمه، لأعود كما بدأت.
"يا فتاة" صوت من خلفي
التفت واعتدلت في جلستي بسرعة فاجئتني فلم أتوقع أنه مايزال لدي طاقة للتحرك أو للحديث، لأرى أحدى النسوة الأربع بالأمس. عصفتني ذكريات الأمس بكل تفاصيلها المريرة.
مالذي تريده مني الآن؟
اجابت بسرعة وكأنها قرأت افكاري "انا اسفة على ليلة البارحة" ابتسمت ابتسامة طمأنينة "فكرت أنك ربما لم تبتعدي كثيراً عن المخيم نظراً لشحوب وجهك ووهن جسدك لذلك اردت الاطمئنان"
"تطمئني علي؟" انا في حيرة، هل هذه مزحة؟ بعد كل ما حدث أنا متأكدة أنها مزحة.
"نعم" كنت مخطئة "لم أستطع أن أثني أهلي عن قرارهم بإيوائك ولكنِ لم أرد ان اتركك هكذا" نظرت قليلاً للأرض ثم إلي فقالت "أشعر بالخزي لما فعلوه أنا أسفة"
تجمد عقلي. يالله هل ستمنحني فرصة أخرى بالحياة؟
اكملت حديثها "أرجوك ابقِ في مكانك سأحاول أن أحضر لك ما استطيع أحضاره من طعام وماء"
فتحت فمي للتحدث، حاولت أن أخرج الأحرف المتعلقة بأحبالي الصوتية ولكن بدلاً عن ذلك خرجت شهقة وتبعها دمعي.
ابتسمت المرأة واتجهت عائدة للمخيم.
انا مصعوقة من الدهشة. أشعر وكأني في مشهد سينمائي عندما تشعر أن النهاية اقتربت ولكن الخير ينتصر مجدداً؟ أشعر وكأني سندريلا عندما رأت الجنية الأم تلوح بعصاتها السحرية لتصنع لها فستان الحفلة. أشعر بأني طفل يتيم أُخبر للتو أن والديه على قيد الحياة. أنا الطفل اليتيم وأنا والده الذين عادا للحياة.

اتجهت للقبلة سجدت سجود شكر طوييل.
رفعت رأسي عن الأرض، نظرت للشمس أشعر بأنها تبتسم لي، أشعر بأن الكون يبتسم لي ومن أجلي. ضممت ساقاي إلي ووضعت رأسي على ركبتاي، بدأت بالبكاء، بكاء صامت.
مسحت دمعي واعتدلت في جلستي. عقدت ذراعاي تحت صدري ثم وضعت راحة يداي على الأرض عن يميني ويساري. لا أريد أن أبدو متلهفة للطعام لا أريدها أن ترى كم أن شفتاي جافة. لا أريد شفقة.
حقاً؟ هل أفكر برأي الآخرين فيني الآن وانا كنت على بعد دقائق من الهلاك!
وضعت يداي في حجري وبدأت باللعب بأظافري. تفحصت يداي، مليئة بالتراب وبأشياء أخرى لا أريد أن أفكر بماهيتها في الوضع الحالي و..
كلا لايمكن أن يحدث هذا.
ليس الآن
ليس الآن
ليس الآن
ليس الآن
ليس الآن
هذا يفسر كل شيء.
المزاج المتقلب بالأمس ووخزات المعدة.
الدورة الشهرية. بالطبع لم يكن لها أن تختار وقتاً أسوأ من ذلك سوى الآن!!
بعد ومضات بسيطة من الآمل كان لابد أن يكون هناك شيء سيدمرني للمرة الأخيرة
بدأت أتخيل ليل الصحراء الموحش وكيف سأمضي وقتي متكفنة حول نفسي في ألم يمزقني.
انا هالكة لا محالة
نظرت إلى حجري وكان مقدمة بنطالي مغطاة ببقع الدماء. اخذت نفس عميق واغلقت عيناي. سيمضي هذا الوقت سيمضي وسأنجو.
وكيف سأنجو؟
أشعر بأني في فقاعة سوداوية معتمة تحجزني عن العالم وكتب على جدرانها أسوأ طرق يمكن أن أموت فيها هنا في الصحراء ولا يمكنني الخروج منها.
"لقد عدت"
انفجرت الفقاعة لأعود لصحراء مشرقة مقابل وجه مبتسم
"أنا.." لم أستطع الحديث وكأني فقدت حروف الأبجديّة. وضعت رجل فوق الأخرى حتى لا تتمكن من رؤية بقعة الدم وحاولت أن أخفيها بيدي "أنا سعيدة لدرجة لاتتصوريها" سقطت دمعة رغم إني جاهدت عقلي وقلبي ألا تفعل
رمت الحقيبة التي بيدها أرضاً وأسرعت وضمتني إلى صدرها متمتمة "أنا أسفة.. أرجوك سامحيني"
وبدون أدنى نية، وضعت يداي حولها وضممتها أكثر. يبدو غريباً العناق، دافئاً أكثر، دافئ جداً مقارنة ببرود الصحراء الثقيل.
انفصلت عنها ومسحت وجهي بسرعة وكذلك هي ثم أسرعت للحقيبة وأحضرتها حتى تخرج محتوياتها: ٦ قوارير ماء، ١٢ رغيف خبز، ٣ قطع من الجبن.
لا أعتقد أني شعرت في حياتي كلها ما شعرته لحظتها، رؤية الطعام والماء بعد انقطاع يومان لأنه شيء عظيم.
أخذت قارورة الماء باندفاع وفتحتها بسرعة لجعلها تتدفق بأنحاء حنجرتي والبلعوم لتملأ معدتي وبسرعة تداركت الأمر واغلقتها وقلت لها مفسرة "يجب أن أحافظ عليها فلا أعلم كم سأبقى هنا"
ابتسمت ثم نظرت إلى عيناي بعمق "أنا أسفة لأن هذا كل ما أستطيع أن أقدمه لك"
لم أستطع أن أجاملها بقولي أنه كثير وأشكرها على مافعلت، لأنه لا شيء لا شيء..
أنا لا احتاج طعام وماء فحسب بل مأوى وعائلتي وسرير ودورة مياه والأهم من ذلك كله.. ملابس نظيفة وفوط صحية.
"أنا أمنية، ما أسمك؟" سألتني وهي تجلس مقابلي
"منى"
"كم تبلغي من العمر؟" وقبل أن أتحدث أكملت "اوه.. دعيني أخمن"
نظرة إلي بنظرة تفحصية مضحكة وهي تغمز بعينها اليمنى "تسعة عشر.. امم لا لن أقع بالفخ ففتيات الجيل الحالي يبدون أكبر بكثير مما هم فعلاً عليه" "امم ١٦؟"
لم أستطع منع نفسي من الضحك "ثمانية عشر"
"اخطأت مجدداً" قالت وهي تضحك
"هل هناك ما تريدين أن أفعله لك رغم أنه لا يوجد الكثير لفعله؟" بدت ملامحها جدية أكثر الآن
"هل لديكم هاتف؟" سألت
"نعم ولكن لا يوجد إرسال هنا"
"متى تعتقدين أنكم ستخرجون من هذه المنطقة ويتوفر إرسال؟"
"لا اعلم ربما ثلاث إلى أربعة أيام"
وكالعادة خيط أمل جديد ينزلق من يداي
أضافت بنبرة حماس "ربما يمكنك إعطائي رقم والدك وإن توفر إرسال اتصل بهم؟"
اضائت عيناي بفرح "نعم نعم تبدو فكرة جيدة.. هل لديك ورقة وقلم؟"
"كلا يمكنك إخباري إياه فأنا جيدة مع الأرقام"
"حقاً؟"
"نعم"
عقدت يداي في عدم تصديق "هل يمكنك حفظ رقم مكون من تسعة أرقام بمجرد سماعه لمرة واحدة؟"
"هل تراهنين؟" رفعت حاجبها بتحدٍ
"٠٥٦٨٨٣٩٣٩" قلت الرقم بسرعة
فأعادت سرده بنفس السرعة
"مدهش! كيف تعلمتي ذلك؟"
"لا أعلم، ولدت بهذه القدرة.. رغم أن ليس الجميع يقدر هذه الموهبة"
"إنها مدهشة كيف يمكنهم ألا يُدهشوا؟"
"بالحديث عن (هم) سأعود للخيمة لبضع دقائق لئلا يفقدوني ويقلقوا"
"اه حسناً"
نهضت ثم قالت "هل هناك ما تريديني أن أحضره؟ المزيد من الطعام؟"
"ربما.." بلعت باقي الجملة. كيف يمكن أن أقول لفتاة غريبة لم أعرفها سوى لبعض دقائق أن تحضر لي ملابس داخلية نظيفة وفوط صحية؟؟
لو أن أحدهم خيرني من قبل أن اسأل فتاة غريبة ملابسها الداخلية أو التعفن والرائحة الكريهة؟ لكنت أخترت التعفن والموت أيضاً.
أما الآن فمعاييري تغيرت، نظرتي للأشياء ازيحت كثيراً.
"ربما إن كان لديك فوط صحية وملابس نظيفة؟" عيناي ملتصقة بالأرض وأنا أقول هذا
اتسعت عيناها في عدم استيعاب ثم نظرت إليّ، إلى حجري ثم بسرعة قالت "بالطبع بالطبع سأحاول أن أحضر لك منهن شيئاً" وعادت للمخيم.

نظرت إليها وهي تبتعد حينها علمت في قرارة نفسي أنها ماردي ولكنها ماردٌ عطوف لديه لائحة مفتوحة بالأمنيات.
أمنية، أمنية أنتِ ماردي.

مسيرة حياةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن