الفصل التاسع والعشرون

4.2K 274 4
                                    


بدت كدمية ،تجلس على النافذة ،تلصق رأسها على الزجاج ،عيناها تلمعان بوميض حزين ،متورمتان ،تسكنهما هالتين سوداوين ،وأنفها ،وأعلى شفتيها محمر بلون الدماء ،ووجنتاها متوردتان ،ووجهها شاحب مصفر ،هزيلة ،ضعيفة ،لا تستطيع تحريك شبر من جسدها المنكمش ،الضئيل .

شادرةً في عالم آخر ،فكرها غاب عن عقلها ،ليطير بها إلى عالم الخيال ،حيث لا هموم ولا أحزان ،تتغيب عن الواقع ،بعالمٍ مثالي ،ينسجه خيالها ،بطريقة أو بأخرى ،ليتداخل معه صوت عزف هادئ جميل ،عذب بعذوبة الينابيع ،سلسل بسلاسة العسل ،يشعرك بأنكَ تطير عالياً ،بعيداً عن كل شيء .

حركت رأسها قليلاً ،وكأنها استعادت وعيها ،لتشعر بالغثيان ،بالصداع ،بالألم ،بنزيف قلبها ،لتتسلل الأنغام الموسيقية من جديد ،وتزرع في نفسها رغبة ملحة بالخروج .

ببطئ ،ببطئ ،نحو الباب ،الذي لم يفتح طوال الشهرين الماضيين ،أمسكت المقبض بكلتا يديها الضعيفتين ،وفتحته بصعوبة ،لينطلق الهواء المثقل من الغرفة حراً ،طليقاً ،راغبا بالرحيل .

غطت راسها بقلنسوة الوشاح ،وجعل الظل للقنسوة قناعاً لوجهها ،لتسير بخطوات بطيئة حذرة ،بعيدة عن أنظار الجميع ،حيث خرجت نحو الحديقة ،ولمست بقدميها الحافيتين ،العشب الناعم النضر ،لتدرك مدى نعومته ورقته ،وتسير بسلاسة عليه ،وكأنه يرشدها إلى الطريق .

أصبحت النغمات الرقيقة أكثر ازدحاماً ،لتجعلها تشعر بالهدوء ،والراحة ،لتقترب ،وتقترب ،وتظهر من خلال الجدران المعشوشبة ،تلك القبة المزخرفة ،والمزينة بالمجوهرات النفيسة ،لتقترب ،ويفضح الطريق ،نحو أسفل القبة ،حيث يجلس هو ،أمامه تلك الآلة الموسيقية ،يعزف على مفاتيحها برشاقة .

وقفت تحدق فيه بصمت ،أخذ يعزف دون توقف ،حتى انتهت المقطوعة الموسيقية ،لكنه لم ينظر نحوها ،هو يعرف بقدومها منذ البداية ،لكنها لا يزال لا يجرؤ النظر إليها .

بقيت صامتة ،وتسللت بعض الدموع من مقلتيها ،لينهض أخيراً ،ويقترب نحوها ،وهي بدت خائفة ،إلى الحد الأقصى من الرعب ،تراجعت بضع خطوات ،لكن عامود القبة أوقفها ،لتحاصر بين خطواته ،وبين العامود الرخامي الضخم .

أخذت أنفاسها تتسارع ،ونبض قلبها بدأ يتوقف ،ليصبح مواجهاً لها ،فتشيح نظرها عنه ،ليمسك وجهها بحنان ،ويرفعه إليه لتواجهه ،ويمسح دموعها المتسللة بأنملته ،وقال بهدوء حنون :

- أنا هو المخطئ ! ... لا أحتاج أحداً لاخباري بأنني مخطئ ... أملك الكثير من المبررات لأبرئ نفسي ،لكنني لا أريد أن أخبركِ بها ... لأنني ...

ثم أشاح وجهه بحزن ،وأردف بتردد :

- لأنني ... أريدكِ أن تكرهينني لسبب وجيه .

Tied Bird In His Kingdom - (في مملكته أسيرة (قيد التعديلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن