الفصل السادس عشر : وداع ساخر

52 4 0
                                    

تشرق الشمس الكئيبة على القلوب المغمورة بالأسى ، جالسة على كرسي خشبي في حديقة المنزل ، تمسك (سيدة الجريمة) بوعاء يحوي رماد مديرها السابق.

(سيدة الجريمة) و أتى الإسم على مقاس صاحبه.

هي لم تفعل شيئا غير أنها تصرفت بالجثة أو كما تقنع نفسها ، إنه خطأ المدير ، ما كان عليه أن يكون سمينا ، ما كان عليه يستدير ، ما كان عليه أن يعود مبكرا للمنزل ، ما كان عليه سرق الكتاب !

تأخذ ملعقة من الرماد و تسكبها في قدح النبيذ الفرنسي ثم تشرع في الإستمتاع بطعم الجريمة.

غريبة هي .. أليس كذلك ؟

لا يكفيها أن تسمع الصراخ و ترى الضحية و أن تلمس الجثة و أن تشتم رائحة الدماء ، لأنها ٱعتادت ٱستعمال كل حواسها لذلك أنهت عادتها بتذوق ما فعلته.

تكسر صرخة (الخفاش) الصمت ، لتتوجه (سيدة الجريمة) نحو مصدر الصوت و لتشهد على مأساة أخرى .

(أثيرة الدماء) مرمية في حوض الإستحمام المليئ بالمياه القرمزية بينما فمها مخيط بخيط رفيع و يديها مبتورتين.

شخص آخر يجرم في حق نفسه :

- لقد رحلت ! لقد قتلت نفسها .. رحلت ، ارثى صديقتك يا (سيدة الجريمة) !! أرثيها.

- لو كان غيابها رحيلا لكانت ودعتني.

- كفى هراء ! ألا ترينها ميتة ؟!

- الموت ليس نهاية الحياة ، الموت ليس بنهاية لهذا العالم ، هي خالدة في جحيم مخيلتي و في دمع أوراقي و في حفر الماضي .

يكاد أن يجيبها لكن يتطرق إلى سمعه صوت سيارات الشرطة فتبادره (سيدة الجريمة) :

- يا خفاشي الوفي ، خذ كتابي و ٱحرص على نشره ، ها هو مفتاحه ، نظفت السيارة و وضعتها في الجهة المعاكسة من الجبل ، ارحل ، ارحل من الباب الخلفي و ٱنزل نحو الطريق الترابي عبر الصخور ، ارحل و ٱعلم أن لك في القلب معزة و في الوعي أثر أبدي. لا تقل شيئا ، أعرف خباياك يا صديق ! أعلم أن لي شعلة داخلك ، و لكن الأهم ، أن لك حريق داخلي ، إن رحلت من حاضري سأسكنك الذكريات الماضية ، فقط .. إرحل.

يأخذ (الخفاش) الكتاب من بين يديها و يتوجه مباشرة نحو الخارج و دموعه تسبقه.

تجلس (سيدة الجريمة) جانب حوض الإستحمام :

- يا شقية ! كنت أعلم أنك ستفعلينها .. أنت أشجع مما توقعت . لكنك أنانية ، أنانية جدا ، لما لم تبعثي لي بدعوة لنرحل سويا لكن لا بأس سآتي قريبا و إن تأخرت لا تفتحي لي الباب و إنما عاقبيني بالمبيت خارجا .. خارجا؟ أظن أنه لا خارج بعد الآن إلا في مخيلتي فالسجن مدخل و لكنه على الأقل جحر لمن مل الخروج.

يقتحم رجال الشرطة الحمام بأسلحتهم :

- لا تتحركي !!

تقف (سيدة الجريمة) بترنح ، ساخرة :

- أتعجب من شرطي يحاسب المجرمين و ينسى القبض على حاكم بلده.

بضحكاتها الباردة ، يسوقونها نحو السجن بعقوبة أبدية المدى.

***

كانت (سيدة الجريمة) متأكدة بأن (الخفاش) سينشر كتابها بعنوان درب السلام للعالم و بين تلك الجدران الضيفة المقرفة ، جالسة تسمع المذياع :

" و قد تم نشر كتاب الملقبة ب(سيدة الجريمة) ، و كان الكتاب عبارة عن صفحات مقسمة لجزئين ، جزء مليئ بالخربشات و آخر أوراقه بيضاء مجعدة و محروقة ، و لم يفهم بعد مالدافع لقتلها لمديرها إن كان سرق كتابا لا يحمل شيئا عظيما غير عنوانه.

تصيح (سيدة الجريمة) بأعلى ما لديها مقهقهة :

{ لم يفهموا ، و لن يفهموا ، هاه، لا سلام ، لا سلام فلاحياة ، الحقير مديري سرق سنوات مبعثرة من تفكيري الذي حلق نحو الورق و لم يصل. كلهم لطفاء ، و جبناء و حمقى و لا أحد منهم يفهمني.

و أنا لا أفهم من نفسي ما يفهم ، و لا أتذكر ما يذكر ، و لا أصدق الان ما أقول ، أو ربما أصدق نسبيا.

كلنا جرذان نعيش القذارة ، نغوص في القرمزية المقرفة و نعشق حياة العهر و الكبت الركيك بضعفه.

أنا الآن في أوج سعادتي المنتحبة
بينما كلهم خارج هذه الزنزانة :

كلهم بائسون ، و مقرفون و عاهرون ، هم فقط جرذان الرذيلة و الظلم التعيس .

وهو كذلك ، ظلم تعيس.

و الكل تعيس ... }

***

يتبع ...

غراب مغتربحيث تعيش القصص. اكتشف الآن