الفصل الثالث : أثر فسر فحقيقة

138 8 2
                                    


"Non , rien de rien ,
Non , je ne regrette rien ..."

الصوت الناعم ل"Edith Piaf" ينبعث من مذياع السيارة ليزيد الجو أناقة.

صوت شبيه بعواء الذئاب ، صادر من ملحمة الرياح التي تصارع أشجار السرو .

إنه لجو كئيب برقي.

و الكآبة لا تكمن في النفوس و إنما في الملامح الظاهرية.

فالطبيعة محتفلة بما لديها ، و خالق الطبيعة وحده العالم إن كان الجو فرحا أم تعيسا.

تقود السيارة و لا تلمح أمامها غير منعطفات الطريق التي تحمل أطياف أفكارها اللامتناهية.

منطقة جبلية ، طرق ترابية و سيارة عتيقة.

صاحبتنا تحب الأشياء العتيقة و لا سيم السيارات القديمة و الكتب. و أيضا المقطوعات الموسيقية التي تعود أصولها لقرون إلى الوراء.

صاحبتنا تكره الرجوع لكنها تحب الوراء ، لأنها تعلم أنه لربما كان أجمل من مكان الحاضر و لكنها تجزم أن الماضي لو عاد ، لكرهته.

هي هكذا ، ذكرى سيئة ، تجعلها تكره الماضي، موقف تافه ، يجعلها تسخر من الحاضر و حلم يتيم يجعلها لامبالية بالمستقبل.

هي لا تفكر في المستقبل و لا الماضي هي فقط ضائعة في الوسط.

و هذا الوسط رغم حضوره ، يبقى موروثا من عصور لم توجد أو ربما وجدت فقط في مخيلتها.

هي هكذا ، بإختصار : تعيش واقع الخيال.

تغلق ال"راديو" و تخرج من سيارتها الدافئة حاملة علب المأكولات الجاهزة.

تلفحها موجة من البرودة ، تخلف القشعريرة في جسدها.

و كم عشقت ملمس الرياح و عفوية الطبيعة المنسجمة مع كيانها.

محدقة بما حولها من أشجار غاية في العلو بخضرة غامقة ، تسقط مفاتيحها ، شاردة بما يعرض أمامها.

أوراق تحمل جزءا من نفسها المريضة ، هاهي تطير من نافذتها بغير مكان مقصود.

تلك الفتاة الغامضة بالوجع ، لم تمانع ذلك ، و كم أرادت هي بذاتها إفناء بعض من أوراقها التي تكللها الحمى الشعورية أو علي أن أقول الفكرية ..

لم تمانع ،فقد علمت أن للطبيعة مقصدا و لو عفويا ، بمسألة هجرة الأوراق الثقيلة بنجوم الليالي الداكنة.

تسرح بعيدا ، حيث تنتمي ، حيث لا أحد غيرها ينتمي.

تسرح في طيات أفكارها.

تسرح في مستنقعات خيالها.

تزور معالم الشغف بالحياة ، و تجد نفسها يتيمة المسعى ، فقيرة الملجأ.

شغفها ، ليس لها شغف بغير الليل و أوجاعه و النهار و مسرحياته و أوراقها بنزف الأقلام و الكتابة التي بقيت سندها و حاضنها و طقسها المقدس.

غفوة بعينين منفتحتين و قلب عليل بما لا يتوقه.

رياح الوحدة الصفراء تلفح قيود الروح فتتلاشى أغلال النفس الدميمة فجأة.

فارغة .. فارغة هي تلك البقعة في منتصف صدرها.

فارغة ، موحشة و باردة.

هي باردة كأوطان هذا الزمان ، شديدة البرودة.

أكوام من الجليد تزداد سمكا داخلها و تمنعها من التحرك ، من شدة ثقل ما تحمله.

تنزل للأرض الترابية بغية ٱلتقاط مفاتيحها فتلمح شيئا يدخل الشك الذي لطالما زاورها و عاش معها و إلى جانبها.

موقع خال من السكان ، مكان لا يحتوي ع
غير منزلها ، إذن ما السر وراء أثر الحذاء ؟

من ذا الذي زار هذا المكان الكئيب ، الموحش بالقسوة النازفة ؟

شديدة الملاحظة ، هي كذلك. و شديدة الشك أيضا .

أثر حذاء رجالي يحمل رقم 40 .. ليس لها أي علاقة تربطها بأي شخص غير صديقتها الوحيدة.

أسئلة كثيرة تجاهلتها ، لا هي لا تتجاهل و إنما تقترب من منزلها الخشبي كي تجد أجوبة.

لربما أخطأت فيما لاحظته لكن حدسها لا يخطئ.

جانبها المظلم تعلم سابقا أن كل أثر بعده سره و حقيقته.

و إنما الوجود آثار و أسرار و حقائق.

و ما أغلبنا إلا عميان الوجود ...

***

يتبع ...

غراب مغتربحيث تعيش القصص. اكتشف الآن