"Non , rien de rien ,
Non , je ne regrette rien ..."الصوت الناعم ل"Edith Piaf" ينبعث من مذياع السيارة ليزيد الجو أناقة.
صوت شبيه بعواء الذئاب ، صادر من ملحمة الرياح التي تصارع أشجار السرو .
إنه لجو كئيب برقي.
و الكآبة لا تكمن في النفوس و إنما في الملامح الظاهرية.
فالطبيعة محتفلة بما لديها ، و خالق الطبيعة وحده العالم إن كان الجو فرحا أم تعيسا.
تقود السيارة و لا تلمح أمامها غير منعطفات الطريق التي تحمل أطياف أفكارها اللامتناهية.
منطقة جبلية ، طرق ترابية و سيارة عتيقة.
صاحبتنا تحب الأشياء العتيقة و لا سيم السيارات القديمة و الكتب. و أيضا المقطوعات الموسيقية التي تعود أصولها لقرون إلى الوراء.
صاحبتنا تكره الرجوع لكنها تحب الوراء ، لأنها تعلم أنه لربما كان أجمل من مكان الحاضر و لكنها تجزم أن الماضي لو عاد ، لكرهته.
هي هكذا ، ذكرى سيئة ، تجعلها تكره الماضي، موقف تافه ، يجعلها تسخر من الحاضر و حلم يتيم يجعلها لامبالية بالمستقبل.
هي لا تفكر في المستقبل و لا الماضي هي فقط ضائعة في الوسط.
و هذا الوسط رغم حضوره ، يبقى موروثا من عصور لم توجد أو ربما وجدت فقط في مخيلتها.
هي هكذا ، بإختصار : تعيش واقع الخيال.
تغلق ال"راديو" و تخرج من سيارتها الدافئة حاملة علب المأكولات الجاهزة.
تلفحها موجة من البرودة ، تخلف القشعريرة في جسدها.
و كم عشقت ملمس الرياح و عفوية الطبيعة المنسجمة مع كيانها.
محدقة بما حولها من أشجار غاية في العلو بخضرة غامقة ، تسقط مفاتيحها ، شاردة بما يعرض أمامها.
أوراق تحمل جزءا من نفسها المريضة ، هاهي تطير من نافذتها بغير مكان مقصود.
تلك الفتاة الغامضة بالوجع ، لم تمانع ذلك ، و كم أرادت هي بذاتها إفناء بعض من أوراقها التي تكللها الحمى الشعورية أو علي أن أقول الفكرية ..
لم تمانع ،فقد علمت أن للطبيعة مقصدا و لو عفويا ، بمسألة هجرة الأوراق الثقيلة بنجوم الليالي الداكنة.
تسرح بعيدا ، حيث تنتمي ، حيث لا أحد غيرها ينتمي.
تسرح في طيات أفكارها.
تسرح في مستنقعات خيالها.
تزور معالم الشغف بالحياة ، و تجد نفسها يتيمة المسعى ، فقيرة الملجأ.
شغفها ، ليس لها شغف بغير الليل و أوجاعه و النهار و مسرحياته و أوراقها بنزف الأقلام و الكتابة التي بقيت سندها و حاضنها و طقسها المقدس.
غفوة بعينين منفتحتين و قلب عليل بما لا يتوقه.
رياح الوحدة الصفراء تلفح قيود الروح فتتلاشى أغلال النفس الدميمة فجأة.
فارغة .. فارغة هي تلك البقعة في منتصف صدرها.
فارغة ، موحشة و باردة.
هي باردة كأوطان هذا الزمان ، شديدة البرودة.
أكوام من الجليد تزداد سمكا داخلها و تمنعها من التحرك ، من شدة ثقل ما تحمله.
تنزل للأرض الترابية بغية ٱلتقاط مفاتيحها فتلمح شيئا يدخل الشك الذي لطالما زاورها و عاش معها و إلى جانبها.
موقع خال من السكان ، مكان لا يحتوي ع
غير منزلها ، إذن ما السر وراء أثر الحذاء ؟من ذا الذي زار هذا المكان الكئيب ، الموحش بالقسوة النازفة ؟
شديدة الملاحظة ، هي كذلك. و شديدة الشك أيضا .
أثر حذاء رجالي يحمل رقم 40 .. ليس لها أي علاقة تربطها بأي شخص غير صديقتها الوحيدة.
أسئلة كثيرة تجاهلتها ، لا هي لا تتجاهل و إنما تقترب من منزلها الخشبي كي تجد أجوبة.
لربما أخطأت فيما لاحظته لكن حدسها لا يخطئ.
جانبها المظلم تعلم سابقا أن كل أثر بعده سره و حقيقته.
و إنما الوجود آثار و أسرار و حقائق.
و ما أغلبنا إلا عميان الوجود ...
***
يتبع ...
أنت تقرأ
غراب مغترب
غموض / إثارةالحياة .. هي تلك المقبرة التي تجمع العائدين و المهاجرين عنا . الحياة .. هي تلك التي تجبر الحمام أن يكون غرابا ، أو على الاقل : أن يلبس قناع السواد. الحياة .. تقتلنا و تتركنا تحت رحمة الموت المتنفس بالوجع. ... الحياة .. هي مقبرة الغربان .. هي مقبر...