عينان زمرديتان تشعان بعد غروب طويل.
الثالثة بعد منتصف النهار :
جالسة على كرسيها المهترئ ، تمسك بكتابها اليتيم و سيجارتها المشتعلة بينما قدح من القهوة الباردة ، يجاورها فوق الطاولة.
تهجر (سيدة الجريمة) كتابها للحظات لتشاهد (خفاشها) ممدودا على الأريكة ، كجثة هامدة بعينين مفتوحتين :
- قولي أنك لم تقطعي أطرافي ، أنك لم تنتزعي جلدي ، قولي أن هذا مجرد كابوس، بصوته المرتعب يستنكر أفكاره الدموية.
- يمكنك التأكد بنفسك ..
يحدق (الخفاش) بكل جسده و لا يجد شيئا يدعو للريبة ، هي لم تفعل له شيئا :
- إذن ، دماء من الجافة تلك ؟
- من شدة جبنك ، حاولت الهرب مجددا و حين ٱعترضتك ، جزعت فأغمي عليك و نزف رأسك فور ٱصدامه بالآرضية !
- ألم تتكبدي عناء مسح الدماء ؟!
- تعودت ألا أخفي آثار ما يحصل ...
يفتح عينيه على مصراعيهما ، مصرخا :
- تعودتي ؟ بحق السماء مالذي تخفينه ؟ أمتعودة أنت على سفك الدماء و ترك أثرها أم ماذا ؟
- عادة في كل شيئ ، ليس مع الدماء فقط.
- حبا بالرب ، مالذي تخفينه داخلك ؟
- فراغ ... هو فراغ ضبابي ، ترى منه عينان بلون الدماء و ثغر بلون السماء.
تنهيدة طويلة المدى تنبعث من داخل (الخفاش) الجاهل :
- رجاءا ! جملة مفيدة واحدة ! أريد شيئا بمعنى !
ترجع (سيدة الجريمة) لكتابها الخاص ، متجاهلة تراهات ذاك الذي يجلس جانبها.
هدوء ظاهري ، صمت مضجر و أنفاس مضطربة ، يشتد ب(الخفاش) الملل فيطرح سؤاله :
- متى آخر مرة إبتسمتي فيها ؟
تنظر له بحاجب مرفوع ، مجيبة :
- كنت طفلة صغيرة لا تعرف معنى الحزن ، فٱبتسمت !
يحدق بها ، غاضبا من ردها المختزل :
- و متى آخر مرة إبتسمتي فيها هكذا ، يقول راسما على محياه ٱبتسامة عريضة ، فتجيبه:
- عند المصور ، طلب مني ذلك ، و أعطيته نقودا أيضا !
يتجهم وجه (الخفاش) ثم ينفجر ضاحكا فتبادره (سيدة الجريمة) :
- أعلم .. مثيرة للشفقة ، مثلك تماما .
تختفي الضحكة من عينيه قبل ثغره و يجيبها :
- أجل .. أنا كذلك . كلنا كذلك ، مثيرون للشفقة . لن أتكلم مجددا إلا حين أتعلم فن الرد الجارح .
تحدق في عينيه اللامعتين بالإنكسار ،يقف ناويا الخروج من المنزل ، فتنطق ليتمعن في كلامها :
- كلامك الجارح لن يزيد الجرح إلا عمقا و من تعود على الوجع ، الكلام لا يشكل خطرا عليه.
***
الخطر .. ليتنا نشعر بذاك الخطر اللطيف بعنفه على طفولتنا.
ليتنا حبسنا في زنزانة الخوف من الأشباح و "الزومبي" ، ليتنا حبسنا في زنزانة الزمن الجميل ، الأحمق.
ياليت مخاوفنا بقيت محصورة في صوت الرياح العنيفة و عواء الذئاب.
ليت رهابنا بقي بسيطا ، بقي مختصرا في وحوش ما تحت السرير.
ليتنا لم نعلم ما هو أفضع ، ما هو أقسى من كل هذا.
ليتنا بقينا ضعفاء أمام مخاوف الطفولة ، لكنا لم نجدد مخاوفنا.
إعرف يا صديقي أن من يتجاوز شيئا يخافه فهو يحط على شيئ أكثر رعبا و كلما ٱجتزت خوفك ، خلق لك ما يرعبك أكثر فأكثر . لذلك ٱحتفظ بخوفك الحاضر و ٱبقى مكانك ، أفضل من أن تموت بسكتة شيطانية.
***
يتبع ...
أنت تقرأ
غراب مغترب
Misterio / Suspensoالحياة .. هي تلك المقبرة التي تجمع العائدين و المهاجرين عنا . الحياة .. هي تلك التي تجبر الحمام أن يكون غرابا ، أو على الاقل : أن يلبس قناع السواد. الحياة .. تقتلنا و تتركنا تحت رحمة الموت المتنفس بالوجع. ... الحياة .. هي مقبرة الغربان .. هي مقبر...