ضحك فصراخ ، و يطفح الكيل ليدخل (الخفاش) ليرى (سيدة الجريمة) في حالة يرثى لها.
تتصبب عرقا و دمعا حارقا ، أثار الدماء على جانب رأسها و على الجدار مما يثبت أنها كانت تصدم جمجمتها بالحائط.
عينان جاحظتان ، مكللتان بالسواد و جسد مرتعش.
رأسها يتحرك يمنة و يسرة ، و دون توقف بينما عيناها تكاد ألا يظهر منها غير البياض.
شعر مبعثر مسدول على وجهها الباكي ، الصارخ بالوجع و الجرم.
يتقدم (الخفاش) نحو صديقته جريا فيمسك بها ليثبتها و يمنع حركتها و إيذاءها لنفسها.
عيناه تضيئ دموعا ساجدة لما يراه.
يسقط جانبها ، محتضنا جسدها المنتفض ، فتنطق (سيدة الجريمة) بنبرة مختلطة ما بين الخوف و الريبة و الجنون :
- يردمونني بالذهب و الجواهر ، هم يفعلون ذلك ، يقولون أن معدني رخيص أمام الذهب.. يقولون ذلك ، هل أنا رخيصة ؟ أجبني !
تبرز عيناها على أثر الصرخة بالسؤال ثم تلين ملامحها :
- الوطن بعيد ، أريد الذهاب إليه ، لكنه مليئ بالوحوش ، لكني لم أجد وطني ، سيأتون نحوي ، أحاول ... أحاول أن أكتم سر ضياعي، سر خوفي لكني أجد نفسي على حافة الفراش كل ليلة ، أبكي خائفة من مجيئهم ، هم لا يقتلون ، هم أعداء الموت لذلك أهابهم ، هم عاشقوا الحياة .. عاشقوا الحياة إذن هم وحوش ... أجل هم وحوش ، وحوش مخيفة بأنياب تقطر دماء الأبرياء و المتعبين ، وحوش ، وحوش كالحياة يعذبونك دون قتل و يقتلونك دون موت .. وحوش...وحوش ..
تصمت لتنطق مجددا :
- أنا أبرد من ذاك الوطن ، أنا أكبر من جسدي ، أنا أشرس من شياطيني. أنتفض لأن أجنحتي تنبت من جلد ظهري الذي يسيل دما قاتما بالمرارة ، سيأتون نحوي ليقتلعوا أجنحتي التي ليس لي غيرها ، التي تعطيني قيمة طفيفة ، أجنحتي هي سبب وجودي...
تدفع (خفاشها) لتصرخ بألم قاتل :
- لا تحضني ، هذا يؤلمني ، يطبق أجنحتي ، إن من يحتضن أوجاعي سرعان ما يرحل ، لا أريد ... لا أريدك أن ترحل و أجنحتي ملتصقة بصدرك المشتعل.
تعود ببطئ لحضنه الدافئ و تقول بهدوء :
- أحاول إخفاء كل شيئ ... إخفاء من يعيشون داخلي ، الموتى بلا موت ، يعيشون داخلي ، و أنا كرهت الحياة .. كرهت الحياة بلا حياة ، حولت صمتي لصوت لأني تعبت من الرواية و الرواة . لأرى من يعيشون داخلي ، أدرت كل المرايا و لم ألمح غير السواد.
تنظر له بعينين بريئتين :
- هم لا يعيشون تحت الفراش ، هم في الجحيم هنا .. هنا !
تؤشر صوب رأسها مبتسمة بسخرية :
- هم في جحيمنا يطلبون مني أن أكتب عنهم و حين أموت لا يموتون معي بل يعيشون على أوراقي ...
يشد (الخفاش) على حضنها بكل ما أوتي من قوة ليطفئ حرقتها و يخمد ناره ، تخور قوى (سيدةالجريمة) بعد صراع شديد و تتمتم :
" لاشيئ تحت السيطرة .. لاشيئ تحت السيطرة "
و بقيت تكرر جملتها إلى أن غلبها النعاس.
***
يجلس (الخفاش) جانب النافذة محدثا (سيدة الجريمة) النائمة :
- هي جريمة أن أعرف عنك المزيد ، أنا مجرم لأنني أوديت بنفسي هنا ، و أنا ضحية لأني بجانبك ، أحرس تعس ليلك الحالك و أنت في نوم هني.
يسمع طرقا خفيفا على الباب الخارجي فيلعن اليوم الذي قرر فيه القدوم لهذا الجبل.
يمر من أمام غرفة الجلوس و لا ينظر لجانبيه تجنبا لتعظيم خوفه ، يفتح الباب بحذر و لا يجد أحدا.يلعن حظه مجددا ، ثم يتوجه نحو المطبخ ليسد رمقه.
و بينما هو عائد للحجرة في الأعلى ، يشاهد ظل شخص جالس على الكرسي الهزاز ممسكا بصحيفة :
- سيدة الجريمة ! متى ٱستفقت؟
يقول و يتوجه بكسل نحوها فتنزل هي بدورها الصحيفة من أمام وجهها ليصرخ جزعا و تجيبه :
- و هل تراني أشبهها ؟
***
الغرباء ... دائما ما ينصحوننا بأخذ حذرنا من الغرباء ، لكنهم لا يدركون أن الطعنات لا تأتي إلا من الأقرباء .
***
يتبع ...
أنت تقرأ
غراب مغترب
Misterio / Suspensoالحياة .. هي تلك المقبرة التي تجمع العائدين و المهاجرين عنا . الحياة .. هي تلك التي تجبر الحمام أن يكون غرابا ، أو على الاقل : أن يلبس قناع السواد. الحياة .. تقتلنا و تتركنا تحت رحمة الموت المتنفس بالوجع. ... الحياة .. هي مقبرة الغربان .. هي مقبر...