الفصل الثاني عشر : قادمون

53 4 1
                                    

ضحك فصراخ ، و يطفح الكيل ليدخل (الخفاش) ليرى (سيدة الجريمة) في حالة يرثى لها.

تتصبب عرقا و دمعا حارقا ، أثار الدماء على جانب رأسها و على الجدار مما يثبت أنها كانت تصدم جمجمتها بالحائط.

عينان جاحظتان ، مكللتان بالسواد و جسد مرتعش.

رأسها يتحرك يمنة و يسرة ، و دون توقف بينما عيناها تكاد ألا يظهر منها غير البياض.

شعر مبعثر مسدول على وجهها الباكي ، الصارخ بالوجع و الجرم.

يتقدم (الخفاش) نحو صديقته جريا فيمسك بها ليثبتها و يمنع حركتها و إيذاءها لنفسها.

عيناه تضيئ دموعا ساجدة لما يراه.

يسقط جانبها ، محتضنا جسدها المنتفض ، فتنطق (سيدة الجريمة) بنبرة مختلطة ما بين الخوف و الريبة و الجنون :

- يردمونني بالذهب و الجواهر ، هم يفعلون ذلك ، يقولون أن معدني رخيص أمام الذهب.. يقولون ذلك ، هل أنا رخيصة ؟ أجبني !

تبرز عيناها على أثر الصرخة بالسؤال ثم تلين ملامحها :

- الوطن بعيد ، أريد الذهاب إليه ، لكنه مليئ بالوحوش ، لكني لم أجد وطني ، سيأتون نحوي ، أحاول ... أحاول أن أكتم سر ضياعي، سر خوفي لكني أجد نفسي على حافة الفراش كل ليلة ، أبكي خائفة من مجيئهم ، هم لا يقتلون ، هم أعداء الموت لذلك أهابهم ، هم عاشقوا الحياة .. عاشقوا الحياة إذن هم وحوش ... أجل هم وحوش ، وحوش مخيفة بأنياب تقطر دماء الأبرياء و المتعبين ، وحوش ، وحوش كالحياة يعذبونك دون قتل و يقتلونك دون موت .. وحوش...وحوش ..

تصمت لتنطق مجددا :

- أنا أبرد من ذاك الوطن ، أنا أكبر من جسدي ، أنا أشرس من شياطيني. أنتفض لأن أجنحتي تنبت من جلد ظهري الذي يسيل دما قاتما بالمرارة ، سيأتون نحوي ليقتلعوا أجنحتي التي ليس لي غيرها ، التي تعطيني قيمة طفيفة ، أجنحتي هي سبب وجودي...

تدفع (خفاشها) لتصرخ بألم قاتل :

- لا تحضني ، هذا يؤلمني ، يطبق أجنحتي ، إن من يحتضن أوجاعي سرعان ما يرحل ، لا أريد ... لا أريدك أن ترحل و أجنحتي ملتصقة بصدرك المشتعل.

تعود ببطئ لحضنه الدافئ و تقول بهدوء :

- أحاول إخفاء كل شيئ ... إخفاء من يعيشون داخلي ، الموتى بلا موت ، يعيشون داخلي ، و أنا كرهت الحياة .. كرهت الحياة بلا حياة ، حولت صمتي لصوت لأني تعبت من الرواية و الرواة . لأرى من يعيشون داخلي ، أدرت كل المرايا و لم ألمح غير السواد.

تنظر له بعينين بريئتين :

- هم لا يعيشون تحت الفراش ، هم في الجحيم هنا .. هنا !

تؤشر صوب رأسها مبتسمة بسخرية :

- هم في جحيمنا يطلبون مني أن أكتب عنهم و حين أموت لا يموتون معي بل يعيشون على أوراقي ...

يشد (الخفاش) على حضنها بكل ما أوتي من قوة ليطفئ حرقتها و يخمد ناره ، تخور قوى (سيدةالجريمة) بعد صراع شديد و تتمتم :

" لاشيئ تحت السيطرة .. لاشيئ تحت السيطرة "

و بقيت تكرر جملتها إلى أن غلبها النعاس.

***

يجلس (الخفاش) جانب النافذة محدثا (سيدة الجريمة) النائمة :

- هي جريمة أن أعرف عنك المزيد ، أنا مجرم لأنني أوديت بنفسي هنا ، و أنا ضحية لأني بجانبك ، أحرس تعس ليلك الحالك و أنت في نوم هني.

يسمع طرقا خفيفا على الباب الخارجي فيلعن اليوم الذي قرر فيه القدوم لهذا الجبل.
يمر من أمام غرفة الجلوس و لا ينظر لجانبيه تجنبا لتعظيم خوفه ، يفتح الباب بحذر و لا يجد أحدا.

يلعن حظه مجددا ، ثم يتوجه نحو المطبخ ليسد رمقه.

و بينما هو عائد للحجرة في الأعلى ، يشاهد ظل شخص جالس على الكرسي الهزاز ممسكا بصحيفة :

- سيدة الجريمة ! متى ٱستفقت؟

يقول و يتوجه بكسل نحوها فتنزل هي بدورها الصحيفة من أمام وجهها ليصرخ جزعا و تجيبه :

- و هل تراني أشبهها ؟

***

الغرباء ... دائما ما ينصحوننا بأخذ حذرنا من الغرباء ، لكنهم لا يدركون أن الطعنات لا تأتي إلا من الأقرباء .

***

يتبع ...


غراب مغتربحيث تعيش القصص. اكتشف الآن