لتستمع أكثر أثناء قراءة الفصل، أنصحك بتشغيل المقطع الصوتي أدناه! استمتع!
10/آب/2011
صارَ ليث في هذه الأيام يقضي أوقاته بين المدرسة و فسحة البيت، فلم يكن لديه شيئاً لفعله. يفكّر أن هل التطوع للجيش قراراً صائِباً؟ فأوضاع العراق هادئة نسبياً في هذا العام، تقتصر على جُرحى و تفجيرات..! و الأسعار لا تريح معظم السكان و لكنهم يتعايشون مع الوضع و علاوةً على ذلك الأوضاع الأمنية أصبحت أفضل، إذ استكشف الشعب أخيراً أن الحرب لم تكن بين كيانات الشعوب، بل كانت بين كيانات الساسة الكبار..
كانَ يلعب الكرة في فسحة البيت مع أولاد من مختلف الأعمار، تحتَ حرِّ آب..و سماء الصيف الصافية، جرَّ قدميه نحو شجرة السرو الكبيرة ليحتضنه فيئها..نظرَ حوله للمكان الشعبي الذي يقطن فيه، مجمع سكني صغير نائي عن المدينة و الأحياء التي يكثر بها الضجيج و زمور السيارات، مكانٌ محبب يقلُّ فيه السكان..حيث الأبواب مواجهة لبعضها بعض و يكثر فيه الأزقة الضيقة، و الناس تجمعها الألفة و الموّدة..المكان هنا يبدو حميم و حنون!
الفقر في هذا الحيّ يكثر، و الأطفال المشرّدة تمرُّ كثيراً في هذا المكان محمّلة ببضاعةٍ رخيصة..و الحياة صعبة هنا."سقى اللّه أيام كنا نضعٌ الحجار الزائدة فوق بعضها لنصنع بيوتنا الخاصة." قالَ قُصي لليث. صديق ليث المفضل، التقى به عند باب المسجد عندما ذهب يوماً ليصلي صلاة الجمعة..وقتها كان كلاهما في التاسعة. كانا يلهوان بتصميم المنازل في مناطق الفيء من الحجر الزائد في المنطقة ليجعلوه مبيتاً لهم طوال الصيف، على عكس أطفال زمنهم الذين التهوا بالتلفاز و الحواسيب. نظرا لبعضيهما و فهِما مغزى النظر، "يمكننا تعزيز مواهبنا!" ابتسم ليث، و عيناه تلمعان من شدّة الحماس..و لكن ما كان يشغل تفكيرة ليس إعادة إحياء مواهبهم أو اللهو، بل كان شارد في أنّه كيف سيُخبر قُصَي بقراره؟ و ربما يحسبُ هذا وداعاً لقصيّ..وداعاً للأيام التي كانا يقضيانها معاً، ليرضي نفسه بأنّ رحيله لم يكن بلا وداع، و لكنه يعلم تماماً أنَّ الوداع بأي طريقة لن يجدي نفعاً. يوم الرّحيل، ألف ألف سلام لن يكفي! لأن الشوق سيقفُ كساعة المنبه و يذكّرنا بجميع من نشتاق لهم، سيوقظنا على آلامنا، و يضعُ شريطٌ من الماضي على شوقنا.
بينما يضعان حجرة فوق أخرى، و يلقيان المزحات و الحزازير..كانت عرشمان تحضر الغداء بسعادة، و كأن أحداً ما يهمسُ في أذنيها أن شيئاً جميلاً سيحدث.. رتّبت المطبخ بعدما انتهت من الطبخ و خرجت بنيّة الذهاب للاستحمام، و لكن استوقفتها ذكرياتها مع راني و كلَّ شيء يجمعهما..كلَّ ضحكة، نظرة، غمزة، كلمة...تخافُ جداً من اشتياقها له! لأنّها كل ما تشتاق لأحد ستراه قطعاً! تخافُ أن يعود و يحطّم كلَّ الجدران التي بَنتها ضد الرجوع لحبّه..تعجزُ عن مسحه عن عقلها، أيامها امتلئت بوجوده..! صار يونبئها حدسها بأنّه عائد.
صارت قريبة من الخزانة، نظرت حولها برهبة..رغبتها باستعادة ذكرياتها تحثّها على أخذ الصندوق، و يمنعها كبريائها! أسندت ظهرها على الخزانة و أخذت تتمعنُّ النظر في الغرفة، تريد شخصاً يعانِقها لترمي كلَّ أعباءها عليه. أو نظرة تقتلُ رغبتها..
خبّئت دموعها و بلعت ريقها، و خضعت لدقات قلبها و رجاء روحها و استدارت لتأخذ الصندوق بلا تفكير. التقطت الدفتر المهترء الرث، الذي أهلكته السنين و هشّمته المشاعر فيه..فابتسمت مسترجعة اليوم الذي ابتاعت فيه هذا الدفتر..-أتعلم يا ذو العينان الخضراوتان؟ اليوم عندما نظرت لي..شعرت بالريبة! كانت نظرتك تحمل شيئاً من الغضب! هل أنت غاضبٌ من نظري المطوّل لك؟ أرجوك، لا تقل لأبيك فيطردني و أخسر النظر لك! 12/1/1993~
أخذت تقلّب بين صفحات الدفتر، و تشعر أن راني واقفٌ قبالتها يقول لها: أعشق حبوب البنِّ في عيونك..
******
جلسا منهكين بعدما أنهيا العمل على المنزل اليدوي، أو المبتكر مثلما يدعوه قصي.."انظر! لقد تطورنا جداً، في الزمنات كانَ يبدو كحجارة فوق بعضها." علّق قصي ممازحاً فأجابه ليث: "أجل، و لكني أخشى أن لا يسعنا الدخول..فقد كبرنا يا قصي!" قهقه كلاهما و صارا يسردان ما كانا يفعلان في الماضي...شرع ليث داخلاً للمنزل و لكن استوقفه صوت فتاة، يبدو أنه صوتاً شاباً و ناعماً رغم العمق الذي فيه.."هل أنتم من بنيتم هذا...المنزل؟" سألت. استقام ليث ليردّ عليها و لكن أصمته شكلها..الذي ذكّره بعرشمان! كانت تقفُ قبالته فتاةً ببنطال أسود و قميصاً أبيض..ملامحها عربية أصيلة، منقوش على جبينها جمال وطنها..لديها عينان بلون الشوكولاه، و حاجبان عريضان مخطوطان فوق عيناها بمثالية، فكّها جذّاب بارزٌ قليلاً..و على يمين كتفها ضفيرة سوداء، تماماً كضفيرة عرشمان! و تلعب بوردةٍ بيضاء كبشرتها بيدها اليمنى و ترتسم على محياها طيف ابتسامة سحرت ليث..لاحظ قصي غرابة الموقف خلال صمت ليث، فأجابها: "أجل! هل نال إعجابك؟" نظر لليثّ يحثّه على الكلام و لكنه اختار الصمت. "بالطبع! أعتذر عن الإزعاج، كنت فقط أريد إبداء رأيي!" تصنّعت ابتسامة و سارت في طريقها، و لكن صوت الذي أرادته أن يتكلم من أول مرة جمَّد خطواتها. "مهلاً، لم نعرف اسمك!؟" هتف ليث، فاستدارت بعينان مبتسمتان قائلة: "وددت ذلك! أنا نورهانم!".
********
شكراً للقراءة. توقعاتكم؟
الفصل إهداء ل noorhanem و اسم الشخصية ع اسمها (: ..
أنت تقرأ
عرشمان
Short Storyتلك سيّدة تُخبّئ الحزن في جوفها و تقتله، و تخيط في قلبها ضحايا..سيدة لا تعرف الكثير عن الانسحاب! تكابرُ عينها عن لسانها، و تبكي بصمتٍ في حبال صوتها! تعاندُ الانكسار معاندةً كعنادِ غصنِ شجرةٍ بأن يُقطع، فتلك السيدة لا ترضى بالبتر أبداً! حُبها مُكا...