الخاتمة.

447 68 165
                                    

هل لقصة تلك الإمرأة خاتمة؟ عرشمان لا تموت..! و لا تنتهي..

16/كانون الأول/2011 - الجُمعة.

تتداول الأخبار مؤخراً موضوع انسحاب الاحتلال الأمريكي و تطلق إشاعات..فليس لديهم إلا هذه الأخبار و أحياناً يجمعون أعداد التفجيرات في المناطق! و لكن لو قررت الولايات المتحدة الانسحاب الآن فستكون خاسرة! فالحرب كلّفتها آلافاً من القتلى، تترواح أعدادهم بين الخمسة آلاف قتيل من جنود و ضباط و مختلف الرُتب! حتى تكاليف الحرب باهظة جداً و نفيسة! فلم يتوقع أحد أن حرباً قد تكلّف تريليون دولار! تريليون دولار، آلاف القتلى والجرحى و مع ذلك لم تحقق الولايات المتحدة نصراً عسكرياً و لم تنجز أهدافاً إستراتيجية، إنما خلفت مئات الآلاف من القتلى والجرحى العراقيين..

كانَ أذان الظهر يعلو في الحيّ ليُنبّه الرجال ليذهبوا لصلاة الجُمعة..فترى عشرات الرجال تلبس عباءاتها البيضاء متجهة للجامع! فاصطحب راني ليث معه ليصليا في الجامع. ارتفعَ صوت الإمام معلناً عن بدء الصلاة "الله أكبر الله أكبر..الله أكبر الله أكبر..أشهدُ أنَّ لا إله إلا الله و أشهدُ أن محمداً رسول الله..حيَّ على الصلاة حيَّ على الصلاة..حيَّ على الفلاح حيَّ على الفلاح..قد قامت الصلاة..لا إله إلا الله! الله أكبر"

تأخذُ خطوة يميناً و أخرى شمالاً و يلبسها الخوف و الذعر! وضعت يدها على قلبها و ربتت عليه لتطعن الأحاسيس التي تراودها..و لكن حدسها أقوى من أي شيء! وضعت يداها على رأسها لتقتل الأفكار، صارت يداها ترتجفان خوفاً..هل ستستيقظ من الحلم الآن؟ لأن حياتها بقرب من تحب كانت كحلم..! وقعت أرضاً منصدمة من صوت الانفجار الذي جلجلَ في الحّيِ و مزّقها! أيقظها من حلمها واقعة على قدميها..أمعنت النظر في المكان الذي يجلس فيه راني عادةً، و لاحظت عمامته التي تركها في نفس المكان! و اختنقت الكلمات في حلقها!

رنين الجرس أفاقها من شرودها..فركضت مُسرعة نحو الباب و فتحته؛ كان واقفاً خلفه قُصي، ينقش دموعه على وجهه، و يحملُ عبء الموت على كتفه، و يخبئ في جعبته خبراً قد ثقل على رِئتَيه فجعله غير قادر على التنفس..! "قُتلا يا خالتي! ماتا..! أخذتهم عاصفة الحرب..ذهب ليث..آه! ذهبوا.." صرخ يهجش بالبكاء، صديق عمره توّفى. و لكن صوت عرشمان الحاد و القوي استوقف دموعه و أربكه. "إذاً الحلم انتهى..و لكن لا بأس! فأنا أمٌ لشهيد و زوجة لشهيد بإذن الله! تالله إنني رُزِقتُ جنّتي قبلَ مماتي.." اجتمعت النساء على الشرفات من الضجيج في الزقاق، فتعجّبنَ من الخبر! "ودّعتَ صديقك يا قُصي؟" سألته، و لكن دمعة وحيدة خانتها و نزلت رغم قوّة نظرتها و متانة وقفتها المعتزّة. حلَّ صمتاً أخرس بين النساء المُتأثرات فقطعته عرشمان: "قُل لي! أودّعت صديق عمرك؟" صرخت عليه بانكسار. "أجل! و طلب مني إرسال هذا لكِ.." تردد في تسليمها هاتفه المحمول. ظهر فيديو كسرَ متانة وقفتها، صوت الرصاص واضحاً و عالي جداً في الفيديو و كان ليث ينظر حوله خائفاً، وجّه نظره للكاميرا..و كان كأول مرة رأته بها عرشمان؛ الرماد يُغطي وجهه.." عدتُ يا أمي كأول مرة رأيتيني فيها، أتذكرين؟ كنتُ لي أماً يا عرشمان، و إنني أحببتك جداً..و أحببت سيدنا محمد أكثر من نفسي الذي بين جَبيّ كما كنتِ تقولين لي! و عشقتُ وطني حتى ضحّيتُ له! أحببتُ وطني كما أحببتك..و لأنني أُحبّه ضحّيتُ له، و لكنني أقسمُ مهما ضحيت لن أكون مثلك! فتضحيتك تشهدُ البلاد لها! أخبري نورهانم أنني أُحبها جداً..أخبريها أن قلبي تعلّقَ بها جداً حتى باتت جزءاً منه! و أنا سأخبر ربي عن الذين قتلوني هنا..أشهدُ أن لا إله إلا الله و أن محمداً.." و فجأة طار الهاتف و اندلع صوت انجار اخترق أذنُ عرشمان و تعالت صرخات و صيحات مجهولة، ثم أُخذَ الهاتف من قبل قصي و انتهى الفيديو. "أرأيت؟ طفلي مات و هو يصلي صلاة الجمعة و حبيب قلبي الجمعة..ماتا شهيدان! فكيف تذرفُ لي دمعة؟" قالت عرشمان مبتسمة.

دخلت المنزل و ارتدت ثوباً أسود يعزّي قلبها..ثم جرّت قدميها للباب و خرجت للزقاق. "يا أيها النساء! من ماتَ لها ابناً أو زوجاً او أخ لتلبس الأسود و تخرج..تعالوا نحتفل بشهدائنا! البكاء و العويل لا يليق بمرتبة الشهيد..اخرجنَ يا أيتها النساء!" صاحت و هي تدورُ على البيوت المجاورة، كلَّ إمرأة خرجت من منزلها كانت تلبسُ الأسود..خرجن لساحة الحيّ و مشوا يهتفون. "لا إله إلا الله و الشهيد حبيب الله..لا إله إلا الله و الشهيد حبيب الله.." أصواتهنَّ غلبت آلام الحرب، الصدق في قولهن أسقط الحرب!

*****

18/كانون الأول/2011

"أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن الحرب في العراق قد انتهت بعد تسعة أعوام، وأن بلاده ستكمل سحب قواتها من العراق بنهاية اليوم الأخير من العام الحالي. كما قال إن العلاقات بين البلدين بعد الانسحاب من العراق ستكون منذ اليوم الأول من العام المقبل علاقات طبيعية كما تكون العلاقات بين دولتين ذات سيادة.

"كما بقي العراقيون صامدين خلال الحرب، لدي امل كبير في انهم سيعرفون كيف يبنون مستقبلا على مستوى تاريخهم". ظهرت صورة الرئيس الأمريكي على شاشة التلفاز. 

أطفئت عرشمان التلفاز مبتسمة، لقد استشهدا قبل انتهاء الحرب كليّاً! دثرت ضفيرتها و أعادت تجديلها، فتعقّدت حكايتها أكثر، ثم راحت تبدّل اللون الأسود للأبيض الصافي، محتفلة بموطنها، أخذت علم العراق الذي كان لديها منذ سنين و خرجت من منزلها. رفعت العلم في الساحة منتصرة! العراق انتصرت! "بالروح بالدّم نفديكِ يا عراق.." و أخذت تهتفُ حتى اجتمعت عشرات النساء و الشباب و الرجال..ارتدت الأبيض لموطنها..موطنها الذي ضحّت له، موطنها الذي احتضنها كلَّ تلك الأعوام و الأيام! العراق التي تشعُّ باللون الأحمر تحررت..

تلك السيدة أحبّت راني فماتَ شهيداً، فحبها انتصار..لم تهزم الحرب جزءاً منها فتلك سيدةٌ استحالة هزيمتها! ضاعت الأرض في تضحيتها و اندثرت الأماني في جديلتها و تبخرت الشمس لسماع حكايتها...لن تطوي الذكرى صفحتها، فتلك سيدة لا تُضعُ في طيّ النسيان..سيدة لا تنتهي!

طفلنا المشرد واجبٌ علينا..

حبّنا الصادق لن ينهشه الزمن..

حربنا ستنتهي..فلا شيء يبقى للأبد!

قصتنا انتهت، و سردت لنا طيفاً من معاناة العراق.

النهاية..

******

انطباعك عن الرواية؟

هل تركت فيك أثر؟

ما رأيك بقضية الطفل المشرد؟

تعليق مفتوح..........؟

عرشمانحيث تعيش القصص. اكتشف الآن