7/تشرين الأول/2011.
أجمل جو بالنسبة لعرشمان قد طلَّ معتّزاً بنضارته، وردة الفصول الأربعة جاء متلبساً الورد، و رائحة النسيم العليل..العراق تبدو جميلة جداً و مزهرة كعادتها، شابة برداءٍ أحمر تختطفُ كل الأنظار!. هلهل الصباح على الحي حاملاً في جعبته يوماً أحلى! و أصوات الأطفال في الساحة تزقزق، لترسم جو المنطقة المعتاد، "*تمرية..تمرية." ينادي البائع المتجول على مضمون عربته ليلتم حوله الأطفال.
اعتادت عرشمان على زرع الورود كلَّ سنة، فكانت تقفُ على الشرفة تسقي مزروعاتها بابتسامة.."صباح الخير يا عرشمان!" رحّبت جارتها من على الشرفة المقابلة فردّت عرشمان بلهفة: "صباحك نور أم أحمد!". ليث يبدو عليه القلق دائماً فهو يفكر كثيراً مؤخراً في تطوعه للجيش..كيف سيلقي الخبر على قصي اليوم؟ هل من المعقول أن يمنعه قصي أو أن يتركه؟ كما أن ما يزيد توتره هو نظرات عرشمان التي تبدو و كأنها تسخر منه..يشعرُ أنه يحمل سكيناً بيده و يطعن نفسه عندما يفكر بالأمر! يقاتلُ الأيام بسيفٍ من الخوف، يخافُ من أن يترك قصي! يخاف على نورهانم و من ردة فعلها..يكره أنه سيذهب بعدما تعلّق بها..و بات يكره تلك المشاعر نحوها! رغم أن قصي يقول له أنها ربما تبادله و لكنه لا يقتنع! لا يقتنع أنها حقاً تبادله...حكى عنها لعرشمان و لكنّها لم تجاوبه..اكتفت بالقهقهة العالية ثم اعتذرت أنها تريد الخلود للنوم، و لكنه يعرف ما تعني ضحكاتها، يعرف أن رأيها مثل رأي قصي.
قرر اليوم أنه لا يجب أن يُبقي موضوع تطوعه سراً عن قصي..لذلك سيذهب ليخبره اليوم بقراره، رغم خوفه و ذعره من ردة فعله و لكنه سيقنعه بطريقة ما أن هذا ما كُتب عليه. "أمي! يا أمي، أين أنتِ؟" مرَّ بمخيلته أول يوم رأى عرشمان و كيف كان يهجش بالبكاء باحثاً عن أمه..هزَّ رأسه نافياً أفكاره القبيحة ثم ابتسم عندما رأى عرشمان آتية نحوه...كان يشعر بالوقار عندما يراها تمشي نحوه، يراوده شعور الافتخار عندما ينظرُ لعيناها العسليتان و يحسُّ بأنهما يعانقاه دوماً، و يقول في نفسه دائماً: "ما الذي أجبرها على أخذي و رعايتي؟ ". بدأ حديثه قائلاً: "على ما أظن، لقد حان الوقت للذهاب و التطوع! و صار عليَّ إخبار قصي بقراري هذا..و أنا أريد سؤالك، هل من الممكن أن يتركني عندما يعلم؟" كانت مرخية رأسها للأسفل لتخفي ابتسامتها التي صارت تنمو أكثر و أكثر. "و من قال أنك ستذهب؟" كانت تتوقع منه الصدمة، التفاجؤ، أو الرفض أو مقاطعتها أثناء كلامها و لكنها لم ترى منه إلا تنهيدة و نظرة شك. ما الذي يجول في خاطرها؟ "أولاً يا سيد محارب، المتطوعين لا يُتم قبولهم تحت سن الثامنة عشر، و عليهم أن يكونوا لديهم قوة بدنية." عندما أخبرها الخبر أول مرة لم تفكر إلا في أنها ستخسره، و لم تبحث عن الموضوع..و لكن عندما سألت أناس كثيرة من معارفها علمت بقرارات الحكومة و كانت تنتظر هذه اللحظة بالضبط. و لكن لم تتوقع ردة فعله أبداً، فبدا لها أنه ارتاح أو عفي من شيء! "حمداً لله! حمداً لله" غنّى بصوتٍ يرقص فرحاً..ذلك الشعور ذهب، هو حتى لم يريد أن يفهم شيء، سيبقى مع نورهانم و لن يخيّب ظنها! سيبني بيوتاً أخرى مع قصي! "أين حسّك الوطني؟" نظرت عرشمان له بسخط. "طار..طار" و خرج من المنزل متجهاً لقصي.
كان يركض بسعادة نحو منزل قصي و لا يدري ما الذي هو ذاهب لفعله، فقط يركض! و لكنه كاد يوقعُ جراء اصطدامه بشخصٍ ما و لكن هذا الشخص المجهول ساعده بلهفة واضحة، فعندما رفع ليث رأسه و اعتذر من الشخص، وقف مذهولاً، و كاد يبكي، فُتِحَت عيناه على مصرعيها و شهق واضعاً كفّيه على فمه مصدوماً من الذي أمامه، دموعه تمشي على خديه و تخرج كلَّ الآلام الذي كان يشعر بها، دموعه التي كتبت على وجهه شعور الفقدان و الاحتياج..صار يهجش بالبكاء كاليوم الذي بكى فيه عندا أمسى ضائعاً، كاليوم الذي وجد نفسه في مكانٍ لا يدريه...و لكنه الآن يقف قرابة شخصٍ تمنّى لو حضنه لمرة واحدة كآخر مرة..
أنزل يداه عن وجهه بعد أن مسح دموعه التي لم تتوقف بعنف!..لا يعرف ماذا يفعل..أيحضنه؟ أيلومه؟ أيذهب من غير أن يفعل شيء..؟؟ كان يقف قبالة شخصٍ تمنّى في أحد الأيام لو كان موجود، رجلاً يبدو عليه في سن الأربعين يلبسُ عباءة و عمامة..لديه ذقن خفيفة مرسومة على فك حاد و عينان خضراوتان بارزتان جداً..كان و كأنه يقف على المرآة و يرى نفسه بعد أعوام! رجلاً يشبهه بشكلٍ غير طبيعي..! اكتسحت ملامح الرجل ريبة من الشاب الذي يقفُ أمامه رغم أنه تأثر بدموعه جداً و لكنه يودُّ أن يعرف سبب بكاءه! "ما بكَ يا بُنيّ؟" اجتاحت ليث عاصفة من الاشتياق و الحنان عندما سمع صوته. "أمازلت تقول بُنيّ؟ الزمن لا يغير أحد!" رفعَ الرجل حاجبيه باستنكار و شكَّ بأمر الشاب الذي يقف قبالته، و حسَّ كأنه يعرفه من قبل و صار يسأل نفسه؛ من يكون؟
كاد يتكلم لو لم يسبقه ليث بالكلام متلهفاً، و يلقط أنفاسه بسرعة: "لم أقتنع يوماً بأن الصغير يعرف الكبير و الكبير لا يعرف الصغير..و لكنني الآن آمنت! ألم تعرفني يا أبا ليث؟ أنا فلذة كبدك، ابن زهراء! ابنك ليث يا راني..!" اتسعت ابتسامته التي اختلطت بدموعه...و لكن الرجل كان مصدوماً..لم يصدق جيرانه عندما قالوا له أنّ ولده حيٌّ يرزق..اعتقد أن رياح الحرب أخذته و أمه..لم يحتمل الخبر الذي صدّق إحساسه، فوقع جاثياً على ركبتيه..رمى كلَّ أشواق السنين! و نقشَ أعباءه و همومه على قبضتيه و دثرها في عباءته..تنهّد كلَّ سنة قضاها بحثاً عنه! صار يبكي بلا هوادة، خلعَ عمامته و أخذ يضرب نفسه بها، و يهجش بالبكاء..مصدوماً من ابنه الذي غيّرته السنين! ينهشه الندم من استسلامه لمشاكل حياته...يتمنّى لو قُتِلَ بدل أن يعيش بين فقدانه..
ركع قصي ليأخذ أبيه في حضنٍ يعبّر عن مسامحته، ليتلو له الأيام التي سوّدها البعد و الحرب..كانَ مشهداً مؤثراً، أباً يظنُّ أن ولده قتلته الحرب يعانقُ الشاب الذي كان يحلمُ أن يراه مرةً أخيرة كوداع. النّاس التي التمت حولهم سبقتهم دموعهم، يتساءلون عن هذا الموقف الجليل أمامهم! العراق تبقى تجمعنا و الحربُ دائماً تخبئ لنا أسراراً، و في حقيبتها تحملُ ملحاً ليُرشَّ على جرحنا............
**********
شكراً جداً للقراءة. رأيكم للآن؟
أنت تقرأ
عرشمان
Cerita Pendekتلك سيّدة تُخبّئ الحزن في جوفها و تقتله، و تخيط في قلبها ضحايا..سيدة لا تعرف الكثير عن الانسحاب! تكابرُ عينها عن لسانها، و تبكي بصمتٍ في حبال صوتها! تعاندُ الانكسار معاندةً كعنادِ غصنِ شجرةٍ بأن يُقطع، فتلك السيدة لا ترضى بالبتر أبداً! حُبها مُكا...