الفصل(9): الحية وحواء والأبالسة

143 12 0
                                    


بعد أشهر لهذه الأحاديث التي ذكرتُ، كانت «دلَّالة» إيطالية تغتنم فرصة غياب الأمير نعيم عن قصره وتتردد إلى جوزفين لتعرض عليها بعض السلع والحلي وتبيعها منها، وقد استأنستْ بها جوزفين جدًّا ومالت إليها، وعرفتها باسم مدام ببيني، وكانت توصيها أن تشتري لها بعض حاجاتها من الأقمشة والحلي ونحوها.

ولهؤلاء الدلَّالات - البياعات والسمسارات - شأن كبير في مصر بين نساء الأسرات العليا، فإنهن يتاجرن «بالجواهر والأعراض» في وقت واحد، وبدعوى بيع السلع يساومن على الطهارة، فهن لغة التفاهم بين المتعاشقين، وصلة التقارب بين «المتخاونين»، ويندر أن يدخلن بيتًا لا يزرعن فيه زرع الدنس.

على أن جوزفين كانت تجهل ذوات هذه الحرفة جهلًا تامًّا، وقد طلت عليها مدام ببيني غايتها، وسبكت لها حيلتها، حتى أوقعتها في الشَّرَك الذي نصبه لها سنتورلي والأمير عاصم على يدها.

ذلك أن جوزفين انخدعت بتودد مدام ببيني وتحبُّبها وبما كان يتراءى لها من إخلاصها وسلامة نيتها، فمالت إليها ميل الصديقة إلى الصديقة، ووثقت بها وثوقها بنفسها؛ لأن معاملة مدام ببيني لها كانت ترمي إلى هذه الغاية؛ أي إلى فوزها بثقة جوزفين، ولا يتعذر على مدام ببيني التي حنَّكها الزمان أن تظفر بهذه الأمنية من مخدوعتها، ولا سيما لأن سليم القلب كجوزفين يجوز عليه تمويه الداهية؛ ولذلك لم تكن جوزفين تتكبر وتتشامخ على مدام ببيني شأن مخدرات القصور الحصينات، بل كانت تعاملها معاملة الند للند، ولا تستنكف أن تقف معها وقفة المثل مع المثل، ولا سيما لأن مدام ببيني خلبتها برقَّة عشرتها، وسطت عليها بعزة مظهرها.

ولما ظفرت مدام ببيني بهذه الثقة العمياء من جوزفين، انتهزت فرصة غياب الأمير نعيم من قصره إلى الإسكندرية كعادتها، وذهبت في الصباح إلى جوزفين ودعتها إلى تناول الشاي عندها في العصر، فرضيت جوزفين شاكرة مسرورة، فقالت مدام ببيني: إذن أرسل حوذيًّا يعرف منزلي، ولا لزوم اليوم أن تركبي مركبتك.

- لا بأس، في أية ساعة؟

- الساعة الخامسة يكون الحوذيُّ أمام باب القصر، ولي الأمل أن يكون يوسف الجميل معك، يا روحي، ما أحبَّه إلى قلبي!

فابتسمت جوزفين، وقالت: يكون كما ترغبين.

ثم افترقا على هذا الاتفاق.

ولما انتهت الساعة الخامسة كانت مركبة مقفلة تدرج بجوزفين ويوسف إلى حيث لا يدريان، وقد أطلقت جوزفين الحرية لخدم القصر أن يذهبوا حيث يريدون في ذلك المساء، فذهب كل منهم إلى جهة يتنزهون أو يزورون أصدقاءهم.

أما جوزفين فبعد أن ملَّت طول المسافة وتعوُّج الطريق في الشوارع الضيقة والأزقة القذرة وصلت إلى منزل مدام ببيني، وهي لا تدري في أي نقطة هي، فدخلت في باب حقير ويد يوسف بيدها إلى أن صعدت في سلم ضيق قذر، وانتهت إلى قاعة بسيطة، استقبلتهما فيها مدام ببيني بقبلات يهوذا الإسخريوطي وقالت لها: أرجو منك يا حبيبتي أن تعذريني على استدعائك من أبهة قصرك إلى حقارة منزلي.

أسرار مصر ✔ حيث تعيش القصص. اكتشف الآن