الفصل(13): بيد العناية السموية

109 9 2
                                    

مضى على جوزفين في ذلك السجن القصي نحو عام وهي لم ترَ بشرًا غير تلك الكهلة اليونانية أُوَيْقات قليلة في النهار، أما سليم وعلي فلم يُؤذَن لهما البتة أن يصعدا إلى الطبقة العليا من المنزل، وجلُّ ما عرفاه أن الخَوَاجَه جاك سيدهما قد حبس زوجته فوق ليمنعها عن عشيقها، فكانا يأتمران بأمر تلك الكهلة الحارثة كما تشاء، وأما سنتورلي فكان ينام بعض الليالي في الغرفة المجاورة لغرفة جوزفين؛ لكي يوهم الخدم أنه نائم عند امرأته.

ولا ريب أن يدرك القارئ ما قاسته جوزفين في ذلك السجن المرتفع وهي لا تقدر أن تشكو أمرها لأحد؛ فإن تلك اليونانية حارستها لم تكن لتشفي لها غلًّا البتة؛ لأنها غريبة اللغة عنها، فإذا احتاجت جوزفين أمرًا حارت كيف تبلغه إلى حارستها، وهذه لم تكن مطالب جوزفين لتهمها؛ إذ لم يكن واجبًا عليها أن تلبي لها طلبًا؛ لأن وظيفتها انحصرت في تقديم الطعام والشراب لها، وإخراجها في بعض الأمساء إلى البلكون فقط.

وقد قصد سنتورلي من اختيار حارسة جوزفين امرأة غريبة اللغة عنها أن يمنع كل صلة بين قلبيهما؛ لأنه حسب أن التفاهم الصريح بينهما يعقد الألفة، والألفة تفضي إلى إشفاق اليونانية على جوزفين عند إطلاعها على الظلم اللاحق بها، وحينئذ يستحيل عليه أن يأمن جانب المرأة اليونانية، فلا بد أن تخونه، فإما أن تطلق جوزفين من سجنها، أو أنها تغدر به وتشكو أمره للبوليس، أو أنهما تفران معًا.

ولكن بما أن اليونانية لم تكن لتفهم شيئًا من جوزفين، ظلت تعتقد ما طبعه في ذهنها المسيو جاك — سنتورلي — من خيانة زوجته له وتعلقها بعشيقها، وبما أنها كانت متورعة ومتدينة كانت تحسب جوزفين امرأة شريرة جدًّا فتكرهها، وكانت إذا توسلت إليها جوزفين وتضرعت تظنها تلتمس مشاهدة حبيبها فتزداد كرهًا لها؛ ولذلك كانت قاسية عليها جدًّا، فإذا أكثرت جوزفين من التضرع والتوسل حرمتها الحارسة من الخروج إلى البلكون.

وقد حارت المسكينة جوزفين في كيف تسترضي حارستها أو تُفهمها مطلوبها؛ فتارة كانت تكتب لها بعض مقاصدها بالفرنسية وتومئ إليها أن تلتمس من شخص آخر أن يترجم لها تلك الكتابة، فتعرض الحارسة الورقة على سنتورلي فيخبرها ما يشاء، وإذ تكرر هذا الأمر بضع مرات، وخشي سنتورلي سوء عاقبته أمر الحارسة أن لا تقبل منها ورقًا البتة؛ لأنه هو يستفهم منها حاجتها متى اجتمع بها.

وأما الغرض الذي كان يرمي إليه الأمير عاصم وسنتورلي من إبقاء جوزفين جاهلة سبب سجنها، والأشخاص الذين قضوا عليها بهذا الشقاء، ومن احتجاب سنتورلي عنها لأنها تعرفه، الغرض من هذا كله هو أنهما كانا يحسبان حساب إطلاق جوزفين من هذا السجن، أو إفلاتها منه لسبب من الأسباب، فإذا خرجت وهي لا تدري أين كانت سجينة ومن سَجَنها بقي جرمهما مكتومًا، وهذا منتهى التحوز الذي وصل إليه الكائدون، وقد أصابا في تحرزهما هذا؛ لأن سنتورلي ملَّ السهر في مراقبة جوزفين والحرص عليها في سجنها، وصار يلتمس وسيلة للتخلص منها ولو بخلاصها؛ ولذلك عقد النية على أن يطلق سبيلها إذا لم يفلح في المكيدة الأخيرة؛ لأنه خاف ألا يبقى أمرها خفيًّا على تمادي الزمان، فإذا أطلقها من سجنها بالطريقة التي أدخلها إليه فيها أَمِن انفضاح أمره؛ لأنها إلى ذلك العهد لم تكن تعرف مَن أتى بها إلى هناك ولا أين هي ولا سبب ذلك كله.

أسرار مصر ✔ حيث تعيش القصص. اكتشف الآن