واتفق على أثر هذه الحادثة أن ذهب أحمد بك نظيم إلى عزبة ق. لقضاء أمر يخص الأمير نعيمًا، فاجتمع بالشيخ حسن النعمان، وكانا يتحدثان عن مرض الأمير نعيم، فجرَّهما الحديث إلى ما يأتي: سأل الشيخ حسن النعمان: ألا يا أحمد بك، أما عرفتم شيئًا عن مقر الصبي يوسف الذي أخذه الأمير نعيم من عندي؟ فإني ما عدت سمعت عنه شيئًا منذ قيل لي إن جوزفين محظية الأمير فرَّت به ولم يعد يُعلَم خبرهما، إني لا أزال أحن لذلك الصبي؛ لأني ربيته نحو ثلاث سنين.
– لا وحقك لم نعد نسمع عنهما شيئًا قط، ومن يعلم ما هو مصيرهما الآن؟ وعلى ذكر الصبي، ألا تعلم أين ربَّته المرحومة عائشة الحكيمة قبل أن أتت به إليك؟
– كلا، أظنها أخذته في تلك السن من أمه على أنها لم تقل لي شيئًا قط عن أصله وفصله.
– أما سلَّمتْكَ شيئًا يخصه؟
– كلا، لم تعطني معه شيئًا البتة.
– أما رأيت بين ملابسه شيئًا؟
– كلا، لم يكن معه ملابس غير ما كان يلبسه؟
– ماذا كان يلبس؟
– شبه جلابية فقط، وأنا ألبسته ما بقي.
– أظنك ناسيًا يا شيخ حسن؛ إذ يستحيل أن تسلِّمك ولدًا غريبًا لكي تربيه من غير أن تعطيك نقودًا في مقابل تربيته.
– وحياة أولادي إنها لم تعطني شيئًا، ولم يكن على الولد سوى جلابية — وقال الله لا تكذب — وكان في عنقه هذه التعويذة التي تراها الآن في عنق ابني هذا الصغير.
فالتفت أحمد بك إلى صبي يبلغ التاسعة كان أمام الباب يلعب، فرأى على صدره شبه حقيبة صغيرة من جلد وقد خيطت من جهاتها الأربع، وهي معلقة بخيط في عنق الصبي، فقال له: أتسمح لي بها؟
– بين يديك يا سيدي.
ونهض ففكَّها من عنق الصبي وقدَّمها لأحمد بك وهو يتمنى أن يكتفي أحمد بك بها عن التسآل، لئلا يتحقق أخيرًا أن الداية عائشة زودت الصبي بالنقود والملابس اللازمة قبل أن دفعته للشيخ حسن، ولكن هذا تمتع بنقوده وألبس أولاده تلك الملابس الفاخرة.
وما لبث أن خرج أحمد بك من عند الشيخ حسن وانفرد في مكان وفتق تلك الحقيبة الجلدية واستخرج منها الورقة التي فيها وقرأ ما يأتي:
أقسم بأيماني إني أقول الحق، أوعَزَ إليَّ من له السلطة والقوة والأمر أن أخنق الطفل الذي تلده الأميرة نعمت هانم وأدعي أنه وُلِد ميتًا أو مات بعد الولادة، وبسبب الحداد على الأمير صادق زوج الأميرة لم يكن على يدي حين التوليد رقيب أخاف وشايته على هذه الفعلة الشنعاء، فلما ولدت الأميرة طفلة أخفيتها وادعيت أنها وُلِدت ميتة، ثم حرصت على الطفلة في مكان أمين، ووسمت ظهرها بنجمة صغيرة علامة لها، ودفعتها للراهبات مربيات اللقطاء، آملة أن أستردها حين يتسنى لي ذلك.
ثم بعد حين قريب أوعز إليَّ أن أخفي الطفل الذي تلده جوزفين محظية الأمير نعيم؛ لكي لا يكون له ذرية من امرأة أجنبية، فلما ولدت صبيًّا أخفيته وادعيت أنه وُلِد ميتًا، وبعد إذ هممت أن أدفعه للراهبات كما فعلت بابنة الأميرة أخته، خطر لي أن أستبقيه عندي لئلا يشبَّ عندهن على غير دين أبيه، وندمت على تسليم البنت لهن، ولكن كان ما كان ولم أعد أستطيع استردادها، فأبقيت الصبي لكي أربيه تحت رعايتي، ولما شعرت بدنو أجلي بسبب مرض السل الذي اعتراني، وسمتُ ظهر الصبي بهلال صغير علامة له ودفعته لأحد الناس لكي يربيه، وعلَّقت في عنقه كيس جلد صغير بشكل تعويذة، وقد ضمنتُهُ هذه الشهادة الصادقة حتى إذا شاء الله رد الصبي لأبيه والابنة لأمها، أَلْهَمَ الصبيَّ أن يفتح الكيس ويقرأ هذه الكتابة.
إني أستغفر الله على ما صنعتُ مكرهة، ولكني قصدتُ الخير في ما فعلت.الحكيمة الداية عائشة
أنت تقرأ
أسرار مصر ✔
Historical Fictionحدث أن تتواطأ الاثرة وحب المال على حياكة الأسرار ودفنها لسنوات طوال، لكنَّ انكشاف المستور وارتداد البَغْي على الباغي، لربما يحتاج لترتيبات قدريَّة استثنائيَّة، فتكون أرواح ومصائر معلَّقة بجوائز الغيب والمصادفة. يروي لنا «نقولا حدَّاد» في روايته الت...