الفصل (18): الحية الثانية

85 11 0
                                    


أما جوزفين فقد اهتدت على الأمير نعيم بعد وصولها إلى باريس، إذ جعلت تطوف الفنادق الكبرى وتسأل إلى أن عثرت على اسمه في فندق رويال، فقصدت إليه في الصباح وطلبت مقابلته، فأبلغها ذلك الجواب المرَّ مع الخادم، ثم رد رسالتها الأولى بعدما قرأها والثانية من غير أن يقرأها، فتأكدتْ أنه يأبى أن يتصل بأي شيء يخصها، بل ظنت أنه صار يحسبها عارًا ودنسًا له، فصارت تتحاشى أن تتعرض له إشفاقًا على إحساساته، ولما صادفته في غاب بولونيا مرتين ورأت أنه كان ينفر من رؤيتها تأكدت أنه لم يعد يريد أن يعرفها مهما يكن أمرها، ولا سيما لأن الرجل الذي أنقذها من سجنها — أحمد بك — أخبرها أن كل أسرته ناقمون عليها، وأنهم شكروا الله على ابتعادها عنه، وظنت أن الأمير لم يعد يحبها، بل إنه ندم على علاقته السابقة معها، وصار يود أن ينسى تلك العلاقة. وقد تعاظمت هذه التصورات في يقينها لما عاملها به من الجفاء الحاد، فيئست من استرضائه حتى ولو أقنعته ببراءتها؛ لظنها أن ذوي قرباه يحتمون عليه برفضها بتاتًا.

نعم؛ إن جوزفين قنطت تمام القنوط ويئست تمام اليأس واعتصمت بالصبر، ولكن بقي شيء واحد يحرق قلبها، وهو توهُّم الأمير نعيم أنها خائنة في حين أنها مظلومة بتوهمه هذا، وأنها قاست في سبيل أمانتها له ما لا يُحتمَل، فصارت تفكر في طريقة لإطلاعه على قصتها كما هي، فخطر لها أن تكتب له مرة ثالثة وتعنوِن الرسالة بخط غيرها لكي لا يردها من غير أن يقرأها، بيد أنها رأت أن هذه الطريقة غير مضمونة أيضًا؛ لأنه متى فتح الرسالة ورأى أنها منها ردها من غير أن يقرأها، أو أنه إذا قرأها فقد لا يصدقها؛ لأنه خلو من البراهين المحسوسة، ولا يكون لها التأثير الذي لكلامها هي شخصيًّا.

وقد عرف القارئ أن الأمير نعيمًا رأى جوزفين لأول مرة في غاب بولونيا مع صديقة لها، فهذه الصديقة كانت تضارع جوزفين جمالًا وتُسمَّى «المدموزال ماري جوتيه»، وقد نزلت في فندق إيطاليا بعد نزول جوزفين فيه، وبالرغم من اعتزال جوزفين في غرفتها اكتفاء بأحزانها وبكائها، كانت تتحرش بها وتتحبب إليها وتلاطفها وتؤانسها حتى استمالتها إليها وأصبحت صديقتها، وكانت المدموزال جوتيه تدَّعي أنها فتاة غنية من غرينوبل يتيمة الأب، وأنها تقضي بعض الفصول في باريس بغية النزهة وترويح النفس، فاستأنست جوزفين بها، وصارت المدموزال جوتيه تغريها على الخروج من غرفتها والتنزه حرصًا على صحتها وسلامتها، وبالتدريج امتلكت ماري قلبها ووثقت تلك بها، وصارتا صديقتين حميمتين، فجعلت كل واحدة تستطلع أسرار الأخرى، حتى أفرغت جوزفين جعبة أخبارها لماري وقصَّت عليها كل تاريخ حياتها كما هو، وكانت كلما ذكرت لها اسم الأمير نعيم تشفعه بالثناء والتحبب، ولا تغفل عن وصف حسن له حتى صوَّرته مثال الفضيلة وعنوان الرجولية، ولما صادفته في غاب بولونيا قالت لها: «هذا هو.» وهي تتوسل أن يسمح لها بكلمة تقولها له.

ولما وثقت جوزفين تمام الثقة من صديقتها ماري جوتيه قالت لها: بربك! ألا تذهبين إلى الأمير نعيم تستعطفينه أن يسمح لي بمقابلته مرة واحدة وبعدها له أن يفعل بي ما يشاء؟ له أن يقتلني، أو أن يدحرجني عن الدرج، أو أن يطردني طردًا؛ فإني مستعدة أن أقبل كل شيء منه بالسرور.

أسرار مصر ✔ حيث تعيش القصص. اكتشف الآن