كل الوثائق التي أرسلها رايس خلال السنوات الماضية كانت متراكمة ومجمعة في غرفة من غرف أحد الأبراج , هذا القسم من القصر الذي حافظ على طابع القرون الوسطى ولم تجر عليه أية تحسنات.
الغرفة كانت بسيطة تحتوي على بعض الكراسي الخشبية , طاولة كبيرة عليها لمبة وأكداس من الكرتون ومغلفات كبيرة .
أرتعدت ديللي عندما فكرت بالساعات الطوال التي عليها أن تقضيها في هذا المكان المظلم.
دخل راوول وأنار الضوء الذي لا يضيء ألا جزءا من المكتب , حيث وضعت بعض المغلفات التي تحمل طوابع عشرات البلدان , جلس على زاوية الطاولة وكتف يديه على صدره وتفحص المكان.
" يلزمك المزيد من الأضاءة ".
" نعم لمبة أخرى ستكون مفيدة".
أجابت ديللي وهي تقترب ورسمت أبتسامة على شفتيها وأضافت:
" لو سمحت".
" ستحصلين على ذلك".
" هل لديك آلة كاتبة يمكنني أستخدامها؟".
" سنحصل على واحدة".
كانت ديللي مأخوذة بحركة ساق راوول التي كانت تمر بالتعاقب بين الظل والنور , وهو يهزها على طرف الطاولة , ويبدو أنه لا يستعجل ذهابه , وكالمعتاد كبحت ديللي ثورتها من هذا الوضع اللامبالي وقالت بسخرية:
" هذا لطيف جدا من ناحيتك".
ظل وجهه بدون أنفعال وتابع يتأملها بعينين باردتين.
قال لها بلهجة باردة جدا:
" هل أنت بحاجة الى شيء آخر؟".
" أوراق , كثير من الأوراق , أقلام , ممحاة , مصنفات , وما شابه هذه الأشياء وأيضا أذا سمحت....".
" نعم؟".
" مفتاح الغرفة".
قالتها وأطرقت.
أخرج المفتاح من جيبه , مدت يدها لتأخذه , لكنه أمسكها:
" أذا سمحت".
أبتسم بسخرية:
" أفضلك أيضا بشكل آخر".
فقدت صوتها للحظة ثم أرتبكت من شدة الغضب , كيف يمكن أن يطالها بهذه السهولة؟".
" عندما تنفعلين تتلاءمين مع نفسك , لكن كمخادعة...".
هز كتفيه وألقى المفتاح بأهمال على الطاولة.
" ..... أنت بالتأكيد كارثة".
فقدت ديللي صوابها , وبدأت تضرب الأرض برجلها من شدة الأنفعال.
" أخرج , أخرج حالا قبل.... قبل أن.......".
وأختنقت الكلمات في حلقها:
" هل ترين..... الطبع غلب التطبع".
" آمرك أن تخرج".
" سأخرج بعد أن أنتهي من قول ما لدي , وليس قبل ذلك".
" لم يكن لدينا شيء لنقوله , أتركني وحدي".
" وحدك مع ذكرياتك؟".
وأشار الى الكرتون المغبر لمنضد على طرف الحائط.
" ذكرياتي....كما تسميها لا تعني سواي".
صوته أصبح أكثر ثسوة , شبه مهدد , نهض وأقترب منها :
" هناك أشياء لا تعرفينها , هل تفهمين يا آنسة أيفريت؟".
" الى ماذا تريد أن تتوصل؟".
كان قد تقدم حتى كاد يلامسها , كانت يداها نديتين .
" ما يتعلق بأنتحار رايس".
تلقت الجملة كالصاعقة ,خفق قلبها بشدة .
سألت وعلى أساريرها علامات الدهشة:
" أنتحار؟".
" لا تتظاهري بالبراءة".
" لا أعرف عن أي شيء تتحدث".
شحب لونها , وشعرت وكأن كابوسا يجثم على صدرها , أو أنها تشارك في تمثيا مسرحية سريالية".
أخذ مغلفا من الطاولة , تعرفت ديللي الى خط رايس وطوابع الولايات المتحدة الأميركية.
" رسالته الأخيرة".
قال راوول هذه الجملة مشددا على كل حرف , وسحب من المغلق ورقة رسائل مطوية , عليها في الأعلى طابع الفندق .
" عندما وصلت هذه الرسالة كان رايس قد مات , ولا يفهم منها أنك لا تعرفين".
نشف حلق ديللي , فكل هذا لا صحة له ونظرت الى راوول.
" أن هذا ينقصه البرهان".
" أقرأي بنفسك".
ألقى الرسالة على الطاولة , وأنتابتها الرغبة في الأنقضاض عليها وتمزيقها , وتابعت التحديق به دون حراك.
" لا ؟ لا تريدين , أذا كنت تخافين من الحقيقة , سأذكّرك بها , رايس كتب هذه الرسالة بدون أدتى شك قبل تلك.... تلك السهرة الأخيرة , لقد قصّ علينا كل شيء .. كل شيء هنا".
( يا ألهي ما الذي قصه عليهم رايس؟) تساءلت ديللي وهي تستعيد ذكرى الأيام الأخيرة , كم تعبت من أسلوب حياة رايس , بحثت عنه في الحانات , في الفنادق وفي كل الأماكن التي يمكن أن يرتادها , كانت مفعمة بالقلق لأنها تعرف أن عمها يعتمد عليها لمنع رايس من أرتكاب الحماقات.
قالت بصوت هادىء غير مصدق:
" ماذا قال لك؟".
أستعاد راوول الرسالة وتفحصها سريعا وقرأ مقطعا:
" الله يشهد أنها ستفقدني عقلي".
" أنا؟ هل يذكر أسمي؟".
" ليس من الضروري , ولكن من الواضح أنك المعنية , يحدد ( خطيبتي ) , ويشرح كل التفاصيل الكريهة , ويحكي كيف تعذبينه".
" أعذّبه؟".
" من الواضح , أنك كنت غير وفية له وبشكل حقير".
" ولكن........ بالتأكيد يعني تلك الطالبة ذات الشعر الأسود التي كان مفتونا بها , واحدة تدعى سالي".
صرخ قاطعا عليها حبل أفكارها:
" لا تنكري أنك كنت معه في شيكاغو".
" لا , لكن......".
" لا تنكري أنك كنت خطيبته".
" لا".
وشعرت بالبرودة تنساب في عظامها , ولكنه تابع بوحشية وبلا رحمة:
" وتعتبرين أن كل شيء كان واضحا تماما , وأنت المذنبة ".
رمى بالرسالة على الطاولة بأشمئزاز وتابع:
" أسمعني يا راوول , لا علاقة لي بكل ذلك , فأنا متألمة جدا لكل ما حدث لرايس , لكن........".
" متألمة , أنت متألمة , أنا الذي أتألم من صفاقتك في الحضور الى هنا , أنت التي أحبّها , ووضع ثقته بها وبالتالي دفعته الى تدمير نفسه".
أبتلعت ديللي ريقها بصعوبة , وبذلت مجهودا يفوق طاقتها لتمسك دموعها.
" أذا كان هذا ما تظنه".
" ما أظنه لا يقبل الشك , وما تفكر به والدتي شيء آخر , لأنني لم أقل لها الحقيقة , ولكن هناك أشياء لم أستطع أخفاءها عنها , أرنستين تقرأ لها الصحف كل يوم , والصحف المحلية تحكي أحيانا عن رايس".
ضغط على طرف الطاولة بيديه وكأنه يريد أن يكسرها ونظر اليها:
" خنته".
" راوول , لست أنا , عليك أن تصدقني, العلاقة بيننا كانت صورية".
" في الحقيقة , أنها بالفعل لكذلك".
" ليس هذا ما أريد قوله , لقد توهّمنا أننا بهذه الطريقة نستطيع أن نجنبه المشاكل , لقد كان يجتذب المشاكل ".
" الموت هو المشكلة الحاسمة , ومع الأسف لم تجنبيه أياه".
" أنت لا تريد أن تفهم أليس كذلك؟ أنه شخص غير مستقر , وبحاجة الى حماية من الآخرين ومن نفسه أيضا".
" من شخص مثلك؟ أنا أفضل الحماية من حية.......".
فقدت ديللي توازنها وألتفتت نحوه بعيون تقدح شررا , وشتمته بقسوة , وبعد أن خففت عن نفسها قليلا , أضافت بهدوء:
" أنت لا تعرف الحياة التي عاشها , لم تكن معه , وتجرؤ أن تحمّلني مسؤولية موته".
أقترب منها بوجه مليء بالكراهية:
" نعم أحمّلك مسؤولية موته".
أوشكت أن تصرخ , بأن هذا غلط , ولكنها فهمت أن الأحتجاج لا يجدي , فراوول لن يغير رأيه , أدارت وجهها بيأس وأخفته بين يديها لكي لا تريه دموعها , لقد قلب عالمها في ساعات قليلة , وبعد لحظة تجاوزت ضعفها ولكنها لم تقو على النظر اليه.
" أذهب".
أنحنى نحوها بهدوء , سمعت أنفاسه تتصاعد وأرادت أن تهرب ولكنها كانت مشلولة من الخوف , ومن الخلف , طوق عنقها الرقيق.
تمتم في أذنها :
" أنت قتلته".
وأزداد ضغط أصابعه تدريجيا حتى شعرت بصعوبة ألتقاط أنفاسها ثم أدار رأسها نحوه:
" أنت قتلته , كما لو كنت تقودين السيارة بنفسك".
" لا , لم أكن أبدا........".
أختنقت الكلمات في حلقها من شدة ضغط أصابعه وشعرت بحالة من الأغماء.
تأتأت بيأس:
"أتوسل اليك".
قال وهو يتنهد بعمق:
" آه يا ألهي".
وعندما ترك عنقها , ترنحت وكادت تسقط لولا أنه أمسكها من كتفيها , فسقطت على صدره مرتجفة فاقدة كل قواها.
" أنت قتلته,( كرر ذلك بلهجة قاسية ) , ولن أسامحك على ذلك أبدا".
تمتمت مرة أخرى:
" أتوسل اليك".
تجاهل رجاءها وأسندها الى المكتب .
" أمنعك أن تفضي بأي كلمة تمكّن والدتي من معرفة حقيقة علاقتك برايس".
" لا أفهم ما تعني".
قالتها وهي تنظر اليه بجمود كأنها منومة مغناطيسيا والدماء تسيل كالنار في عروقها , هل كان ذلك بسبب الخوف أم بسبب شيء آخر؟
قال بغضب:
" لا تكذبي , أنت تفهمين تماما ما أعني , لن أخبرك عن ردود أفعالي أذا ما كشفت لوالدتي أن رايس وضع حدا لحياته بنفسه , أنها أمرأة عجوز وقد تحملت بما فيه الكفاية في حياتها".
" لا يمكن أن أدّعي ذلك لأنه ليس حقيقيا , لقد مات في حادث مأساوي".
" ألعبي هذا الدور أمام والدتي , وليس أمامي , أعرف كيف عاملت رايس كما أعرف أي نوع من النساء أنت , فكل البراهين هنا , في سالته الأخيرة وفي قصائده".
أغمضت ديللي عينيها لتهرب من نظراته المتهمة , أمسك بشعرها وأدار وجهها اليه.
قال وهو يصر على أسنانه:
" أفتحي عينيك".
بقيت ديللي جامدة , أما هو فقد أزداد عنفا وصرخ:
" أمرتك أن تفتحي عينيك , أنظري اليّ".
الألم جعلها تفتح أجفانها وشعرت بأنفاسه الحارة:
" الآن أسمعيني جيدا , لن تطّلعي على وثائق رايس ألا في هذه الغرفة , لا شيء يخرج منها.. .... أكرر , لا شيء أطلاقا ألا أذا تفحصته أنا شخصيا".
" لكن في رسالتها , والدتك قالت....".
قاطعها بقسوة :
" أعرف ما قالت , أذهبي الى الجحيم مع رسالتك , أطلب ألا يخرج شيء من هذه الغرفة يمكنه أن يجرح أمي , لا شيء ألا ما تقصه عليها أرنستين".
" ولكنها مع ذلك تعرف أن رايس لم يكن ...... لم يكن ملاكا".
" كتابه الأخير لا يترك مجالا لأي شك في ذلك , صحيح أن رايس لم يكن ملاكا وهي تعرف ذلك منذ سنوات وتسخر منه ولكنها تجهل أن موته كان أنتحارا ".
صرخت بصوت يرتجف من اليأس والعجز عن أقناعه:
" هذا خطأ ".
صرخ بأزدراء :
" صحيح , أذن أقرأي هذه الرسالة ".
تركها فجأة وأبتعد عنها ونظراته لا تفارقها , تمسكت بالطاولة لتضمن توازنها , وشعرت بأنها لا تقوى على المقاومة أكثر من ذلك , وفي كل لحظة يتزايد أحساسها بأن نظرات معذبها تخترقها حتى الروح , كانت تفكر:
( لو تستطيع أن تقرأ ما في قلبي , يا راوول , أيها الظالم , لماذا لا ترى الحقيقة فيه؟).
لم يضف أي كلمة , توجه نحو الباب وخرج دون أن ياتفتت , وقعت ديللي الى الأرض وقد تلاشت طاقتها على الوقوف.
نهاية الفصل الرابع
أنت تقرأ
أنشودة البحيرة -آبرا تايلور
Romanceالملخص في البداية ظنت ديللي ايفريت بكل براءة أنها ستكون سعيدة بدورها الجديد في حياة شاعر مشهور تطارده المعجبات .قبلت أن تكون الملهمة التي يكتب لها قصائد الحب , والخطيبة التي تحميه من المتطفلين وترعاه في نوبات يأسه المتكررة , ولكن كل هذا تغير عندما م...