6-الدعوة

4.8K 154 3
                                    

سرير ديللي المقلوب رأسا على عقب , يشهد على تلك الليلة القلقة التي قضتها , كيف ستكشف الحقيقة للسيدة دوبريان ؟ حقيقة علاقتها برايس , وأثناء سهادها , قررت أن تزيح النقاب عن هذه الحقيقة وبأقصى سرعة ممكنة مع أنها مدركة تماما للخطورة التي يمكن أن تحيق بها , ومن المحتمل أن يلغي أعترافها هذا الأمل في نشر قصائد رايس مورغان , وسيصاب عمها والقراء محبو رايس بخيبة أمل كبيرة , ولكنها لم تجد مخرجا آخر , ديللي أيفريت متزوجة من عملها بحسناته وسيئاته , وها هي الآن في موقع سبء ولكن عليها أن تضع حدا لهذا الزواج الذي وضعها في موقع حساس كهذا .
عشاء الليلة الماضية كان بالنسبة اليها نوعا من التعذيب , وبذلت جهدا مضنيا لكي تمنع رغبتها من قول الحقيقة , وبدون أي شك لولا حضور راوول لأعترفت بكل شيء للسيدة العجوز.
ماذا . كيف , ومتى تعترف لها؟ كان صعبا , ويبدو أنه من المستحيل أن تتحادث على أنفراد مع السيدة دوبريان , فهي لا تريد أن تتحدث أمام راوول عن حياتها العاطفية لأنها تخافه وتخاف سخريته ولكنها بدأت تحب السيدة العجوز ولا تريد الأستمرار في خداعها.
منتديات ليلاس
وكذلك كان لديها سبب أعمق وأقوى , ألا وهو كشف نفسها لتشعر بالراحة.
ومهما يكن من أمر فلن تتراجع عن قرارها , وشعرت بشيء من الأرتياح وهي تمشط شعرها أمام المرآة ,ولكنها عبست عندما لمحت الآثار الحمراء التي لا تزال على عنقها.
لبست كنزة رمادية فاتحة , وسروالا رماديا غامقا , وربطت حول خصرها شالا أحمر مكان الحزام , وبعد أن ألتهمت أفطارها بسرعة عادت الى البرج , فتحت القفل بسهولة , يبدو أن أحدا قد زيّته.
وعندما فتحت الباب لم تصدق عينيها , عدة لمبات وضعت في الغرفة مما جعلها تسبح بالنور , سجادة كبيرة حمراء غطت الأرض , كنبتان تشبهان اللتين في مكتب راوول مع طاولة منخفضة , وعلى المكتب السندياني الكبير لمبة جميلة الشكل , وعلى طول الجدار نضدت الكرتونات والمغلفات بعد أن أزيل عنها الغبار , وأخيرا وعلى مكتب صغير آلة كاتبة كهربائية جديدة.
هل يمكن أن يكون راوول فعل كل ذلك من أجلها؟
فتحت المغلف الأول , أنه يحتوي على القصائد التي نشرها رايس منذ ثماني سنوات والتي لا توازي ما كتبه مؤخرا, وضعتها على الطاولة , وأحست أنها غير قادرة على التركيز , فأسندت رأسها على يديها ونظرت في الفراغ وسبحت في أحلامها , قررت أن تشكر راوول قبل أن تباشر العمل , وألتقت أرنستين في الصالون ترتب باقة الورد.
" أين السيد راوول؟".
" أنه يعمل في مرسمه ,ولكنه عندما يرسم لا يتوقف ألا لتناول الطعام , ومن الأفضل عدم أزعاجه".
" أنا على أستعداد لتحمل النتائج , أين يقع مرسمه؟".
" كيف ؟ الآنسة لا تعرف؟ أنه في الأسطبل".
في الأسطبل ! يا له من مكان سخيف , أذن لا بد أن يكون باردا , رغم شمس الربيع التي بدأت تدفىء الجبل , صعدت الى غرفتها وأخذت سترة من الصوف الأحمر.
نقرت على الباب ولم تتلق جوابا ولم تجد أية نافذة لتعرف من خلالها أذا كان راوول في الداخل أم لا , نقرت بصوت أعلى , ولكن في الفراغ , دفعت الباب ودخلت , وقفت مدهوشة , المرسم يسبح بالنور , بعد أن أستبدل السقف بقية زجاجية, وعلى الحائط مجموعة من اللوحات وعلى خشبة طويلة مجموعة من الألوان , كمية من الفرش وأوان فخارية , ورسوم تحضيرية .
كان راوول يقف أمام لوحة كبيرة , ألتفت ونظر ال ديللي بدهشة.
" ما الذي جاء بك الى هنا؟".
" أردت أن أشكرك".
نشف حلقها وأسفت للمبادرة الطيبة , وضع لوحة الألوان والريشة على الطاولة متذمرا من الأزعاج.
" ألم يحدث لك أن قرعت الباب قبل الدخول الى مكان ما؟".
قالت بهدوء:
" هذا ما فعلته".
" وعندما لا تلقين جوابا , هل تستغلين الموقف دائما لتنسلّي الى الداخل؟".
" لا , لكن.............".
" لا أحب أن يزعجني أحد أثناء العمل".
" في هذه الحالة , عليك أن تقفل بالمفتاح".
" هذا ما أفعله بشكل عام".
وأسرع الى الباب ليقفله.
" من الأفضل أن تدعني أخرج أولا".
أستند بظهره الى الباب ولف ذراعيه على صدره .
" أشرحي لي لماذا جئت الى هنا".
" قلت لك لكي أشكرك".
" ولماذا تشعرين بأن عليك أن تشكريني؟".
" أشكرك على طريقة ترتيبك غرفة البرج".
" أقبل شكرك وماذا بعد؟".
" لا شيء , أنتهيت".
قالتها بدهشة.
" البارحة مساء كان في قلبك شيء ما تريدين قوله".
كيف أستطاع أن يعرف ذلك؟ وبدا لها كأنه يقرأ ما بداخلها ......".
" لا أعرف ماذا تتصور؟".
" تكذبين بالنسبة لما أعرفه وأحسه , ومن الأفضل أن تقوليه بصراحة".
" أبدا ليس لدي ما أخفيه".
أدارت نظرها عنه خوفا من أن يقرأ الحقيقة.
" كما يروق لك , لكن الباب سيظل مقفلا حتى أعرف".
وعّق المفتاح على مسمار في أعلى الباب.
" تحت هذه الظروف , سأنتظر حتى تقرر أن تفتح لي الباب".
ألتفتت وأقتربت بهدوء من اللوحة التي يرسمها , المرسم مريح والطقس دافىء , خلعت سترتها وألقتها بلامبالاة على طرف الطاولة , دارت حول اللوحة وهي آخذة بعين الأعتبار أنه يتابعها بنظراته , لكنها متمسكة بألا تعيره أهتماما , اللوحة لا تزال تخطيطا , وهي عبارة عن بورتريه لأمرأة في الثلاثين من عمرها , جميلة جدا ذات شعر أسود , وأحست بأنها نفرت منها , لم تعرف الموديل , لكنها عرفت يد الرسام , ألتفتت بعيون جاحظة الى راوول:
" أنت سان جوست؟".
" تماما".
ورسم أبتسامة ساخرة على شفتيه .
" لكن هذا الأسم.......".
تذكرت أسم القرية التي نزلت بها من القطار .... سان جوست.
" ........ بالتأكيد أستعرت أسمك من أسم القرية".
" أنه بالأحرى على العكس ".
" لكن.......".
" أنه أسم عائلة والدتي ملاّك هذا القصر منذ القرن السادس عشر".
" وأنت ؟".
" راوول أتيين دوبريان دو سان جوست".
وعندما أبتسمت أضاف:
" يبدو أن هذا الأسم مضحك بالنسبة لك".
" أنه أسم نبيل........ لدرجة أنني عندما أتذكر كيف أعتبرتك كواحد....".
" كواحد من الخدم؟ أتذكر أحتقارك عندما أستقبلتك في المحطة".
أبتسم بمكر كاشفا عن أسنان ناصعة البياض.
" كان علي أن أفكر بأنك رسام مشهور بحاجة الى موديل في هذا المكان البعيد".
" لدي مرسم آخر في باريس حيث أمضي جزءا من السنة , لكن أوفيرن لا تخلو من النساء الجميلات".
" لم أشأ أن أقول ذلك , لكنني كنت ألمح الى الطلبات".
" لا أرسم حسب الطلب , أنا أختار المواضيع بنفسي".
شرح ذلك بتعال.
" أذن فأنت لا تحتاج الى موديل للرسم".
" أعمل بشكل مختلف , أرسم تخطيطا , وأسجل أنطباعاتي ثم أضيف التفاصيل , وبعد ذلك لا يتبقى ألا أن أباشر , وفي بعض الأحيان يسهل رسم الروح الأنسانية لكتئن ما عندما يكون غائبا".
أقترب من اللوحة وتفحصها بأجفان مقطبة وتابع:
" الموديل يتكوّن من الجلد ومن العظم ويمكن أن يسليني , أتصوره في جوهره ببساطة".
راقبها بتهكم بعد أن ألقى نظرة أخيرة على اللوحة.
" أعتقد أنك ترغب بمتابعة العمل ".
" لست على عجلة , النتيجة لم تعجبني اليوم".
سحب علبة السكائر من جيب قميصه القطني , ذي الأكمام المرفوعة الى الأعلى والتي كشفت عن عضلات ذراعيه ونعومة يديه , أما فتحة الصدر فقد كشفت عن سمرته الجذابة.
" هل تريدين سيكارة؟".
" لا شكرا , لا أدخن".
" لا تمارسين الرذائل الصغيرة , حسبما أرى".
وأكد على كلمة صغيرة وأحست ديللي بأن طبيعته العدوانية بدأت تستيقظ.
" لأنك محافظة على ما يبدو".
" ولماذا أكون كذلك ؟ فلوحاتك لا تخلو من النساء".
وبحتق أشارت الى اللوحة التي يرسمها.
" مثل هذه , على سبيل المثال.....".
" هذه؟ بكل تأكيد".
ولم يخف مزاحه مما جعلها تثور أكثر ولم تعرف أن ترد عليه بالأسلوب نفسه فقررت أن تهاجم لوحته.
" لا أحب هذا التعبير".
" هل شعرت بالغيرة منها؟".
لقد طعنها في العمق , رفعت يدها لتصفعه لكنه كان أسرع منها فأمسك يديها وسمّرها في مكانها.
ترنحت من السخط وركلته بعنف على قصبة رجله .
" أمرأة شرسة".
وبحركة سريعة ثنى ذراعيها خلف ظهرها , وشدها حتى أنهكت قواها وتوقفت عن المقاومة.
" والآن ستعترفين , لماذا جئت الى هنا؟".
كان صوته هادئا ومهددا.
" شرحت لك ذلك , جئت أشكرك".
" أريد الحقيقة , وألح على ذلك".
" ليس هناك سبب آخر".
" مساء البارحة كتمت شيئا ما".
" لا".
فتل ذراعها مرة أخرى وبقوة أكثر.
أعترفي".
" أتساءل كيف أوضحت حقيقة علاقتي برايس أمام والدتك؟".
ترك ذرعيها وتفرّس فيها بأهتمام .
" ماذا يعني هذا؟ حذرتك من أن تعرف والداي شيئا ".
" لا , ليس فيما يتعلق بما تسميه أنتحارا , حاولت أن أشرح أمس أن خطوبتي لرايس لم تكن حقيقية".
" يجب ألا تعرف ذلك مهما كلّف الثمن , لأن هذا يمكن أن يقضي عليها".
" أنت لا تريد أن تفهم".
" أفهم أكثر مما تتصورين , ولكنني لا أريد مناقشة علاقتكما العاطفية , وبالنسبة لأمي , فأنا أمنعك أن تكشفي لها أي شيء على الأطلاق".
" لكن....".
" أنت لم تسببي لها أية أساءة حتى الآن , دعيها لأحلامها".
ولم تستطع ديللي أن تسيطر على رجفة جسمها , حاولت أن تشرح أهمية أعترافها للسيدة العجوز.
أوجزت قولها:
" أنا آسفة فعلا".
عانقها وشعرت بأن الأرض مادت من تحتها , أحست بأن الدم يغلي في عروقها , رفعت يدها الى صدره لتبعده ولكن راحتها لم تطاوعها.
ثم نهض فجأة وتركها تلهث وأبتعد عن الطاولة , وبعد أن لامستها أصابعه أستعادت ديللي وعيها.
" ما الذي أصابك؟".
أجاب بصوت أجش:
" أن ما أصابني واضح".
" توقف فورا".
" أليس هذا ما تريدينه ؟".
صفعها صوته كضربة سوط , أستجمعت طاقتها ووقفت .
صرخت وهي تدفعه بيديها :
" لن تستطيع ذلك".
" ولماذا لا , منذ يومين وأنت تحاولين أخفاء دعوتك".
ديللي لم تصدق أذنيها.
" دعوتي؟ ستكون بدون شك الرجل الأخير على هذه الأرض الذي يمكن أن أفكر به".
" لا ؟ أنت تفضلي بدون شك الرجل الذي لا يكشف ألاعيبك , كالمسكين رايس".
صرخت وهي تشتعل غضبا :
" رايس على الأقل كان لطيفا".
حدجها بنظرة خارقة مما جعلها تخفض الطرف ,ثم ذهب وفتح الباب وأنتظر.
لا تزال ترتعش , عبرت المرسم بعزة نفس , وتوقفت لحظة على العتبة.
تمتمت بتلعثم :
" أنا آسفة".
وتشنجت , ساخطة من الأعتذار مرة أخرى بدون سبب.
" في الوقت الحاضر , دعيني أتابع عملي ".
ختم الموقف بصوت حازم مليء بالحقد.
ورأت في أعماق عينيه بريقا خطرا.
وفي النهاية فصل الباب المغلق ما بينهما.
نهاية الفصل السادس

أنشودة البحيرة -آبرا تايلورحيث تعيش القصص. اكتشف الآن