"أبي"

255 47 7
                                    


- -

جاثيًا على ركبتيه مطأطأ الرأس يتفقد الأرض والرمال التي تغطيه تلك الرمال السوداء التي تحتويه وبعض الرطوبة تغطي جسده بدا العالم من حوله متناقض كالعادة ولكن مشاعره الفارغة ترعبه ، سكون ولم يتولى أي شيء عليه بعد ، أصبحت تلك السيطرة حاجة له هو لا يملك مايقوده للوقوف يتحسس جبينة ودموعه لا تتوقف متى سوف ترحل هذه الوصمة ، ويشعر بجمال نفسه.

الرمال تصل لسرته ومازال رأسه يتدلى بين اليمين والشمال ، يتنرح على أحزانه ويدندن على يأسه ، أشتاق لذلك اللحن الجميل الذي يهون عليه وطأة اليأس ، رفع يديه وقبض أصابعه وبسط سبابته وأبهامه من كل يد وحاول إلتقاط صورة لهذا اللحن العظيم.

قام بتلك الفعله لعدة مرات لعل الرب يشفق عليه ويزيل تلك الوصمة ولكن دعاؤه لم يوفق ودثره التراب وسد أنفاسه للحظات وتلك القيود تعود واستفاق هالع في قفصة الحديدي ، وللحظة ظن بأن هذا القفص موطنه ومأمنه من كل خوف .

ولكن كالمرة السابقة وجد بياض اليمامة بجانب قفصه مستلقيًا ولكنه لم يكن ناصع البياض بل لونه كلون الغبار وكأن الزمن عثى عليه ودثره هو الآخر بالتراب ، أقترب من نهاية القفص ومد أصبعه يحاول مصافحته ، ولكن بياض اليمامة لا يستجيب له قام بهز قفصه لعله يستمع له .

"عندما تخرج بنفسك سوف أرافقك للوطن " كانت جملة بياض اليمامة تبعث الكثير من الطاقة في جسده المتعفن المتهالك ولكنه مقيد بتردده وخوفه ويالا المسكين لا يعلم بأن خوفة قد أخذ سعادته فور ولادته .

"أخرجني ، أنا آسف ، أرجوك " طلب وأسف وتوسل لم يحرك بياض اليمامة واستمر في تجاهله لم يكن القاتم صبورًا فصرخ عاليًا حتى بصق الدماء من حلقه تلوث بياض اليمامة بالتربه والدماء واستقام بهدوء وتسلق الشجرة الباهته وفور تسلقه لها نمت أوراقها وعادت فروعها للحياة ، أخذ ذلك المشهد أنفاس القاتم وبدأ في حل عقده وضرب القفص بقوة لم يستعملها من قبل كسر القفل ودفع الباب ، ابتسم بياض اليمامة وصفق له ، أخرج قدمة اليمنى وتبعها باليسرى ولكن الباب صغير وأجنحته عالقه بالداخل .

"هيا أخرج لنذهب للوطن " ولم يستطع القاتم تحمل هذا الإغراء وأخرج جناحه الأيمن بلا إكتراث للألم الذي جعله يركع ، حاول إخراج الأيسر ولكنه يفوق الأيمن حجمًا وطولًا ويختلف في اللون فذلك الجناح كشعره يشوبه الشيب ، فتنوع الجناح بين البياض والسواد ، خرج واستقام بصعوبة .

تقدم بترنح للشجرة ووصل لها حبوًا ظن بأن الحياة ابتسمت له ولكنه يستمع لتصفير يذكره بتلك الذكريات الدافئة صفير والده كالنداء له .

بين الوطن والوالد وجد نفسه تائهًا ، يتقدم ويعود استسلم للصوت وحل الضباب على المكان ، لم يعد يرى بياض اليمامة ولكنه يستمع لبكاء عالي فتوقع بأنه البياض، فلقد خيب ظنه ، تبع التصفير وبحث عن خياله ، حلت رياح قوية وذهب الوهن ورأى الحقيقة ، والده أمامه يبدو عليه الكبر ظن بأن حياته عادته وسوف يحصل على سعادته، تقدم لعناقه وكأنه آخر يوم له.

بادله الأب وشعر بثقل في جيبوبه واستمع لصوت كسر جعله يبكي بلا توقف ، كان والده يمرر يديه على جناحه وتبعها بثنيه بقوة وكسره لجناحه الكبير أزاله بطريقة همجية وقام برميه على الأرض الجدباء لتفتت الرياح ذلك الريش ويبقى مكسورًا ، وبقيت يد والده لا تفارق خاصته ، أخرج سهمًا من سلته الخشبية وغرسها في جناحه الصغير ، نزفت عيناه وبكى دامًا .

" أبي " نطقها بعد صمت دام للأبد تفقد ملامح والده الباردة كيوم شتوي قارص ، تجاهله ورمى به داخل القفص وطلب منه والده أن يقترب منه قبل أن يغلق القفص وربت على جبينه ومحى تلك الوصمة ، وأدخل الوالد يده في جيب القاتم وأخذ تلك القروش الذي تركها قبل فترة.

تصدعت ملامحه وعاد اليأس للقفص ، والوحدة كصديق .

Anemone coronaria  | شقائق النُعمان حيث تعيش القصص. اكتشف الآن