الفصل التالث

73 11 2
                                    

في حقل ينزف طهرا وجمالا ، قرب جدول ينسل ، كأثواب فضية حريرية، من بين الصخور ،المزينة بروائح النرجس و الزنبق و المضمخة بعطر الياسمين و انفاس الأرز الطيبة . يقع  على رابية معشوشبة و مزهرة  منزل صغير لطيف تداعت أركانه و بهتت ألوانه، و زال بهاؤه ، فأصبح كالنعل المهترئ ، أو كشيخ خطت الحياة آثارها على وجهه،  فبدى عاريا وسط حسن الطبيعة الغض .

في ذاك  البيت المنسي بين طيات الحياة ، و المخفي تحت رداء الزمن ، جلست ليلى بألفة وسط قرقعة نار المدفأة، و عذوبة عطر الخشب البارد ، و دفئ كأس الشاي الساخن ، و  حديث الجدة الهادئ، الذي يحاكي وجهها الصبوح الممتلئ  بخطوط الزمن و رسومه و منحيات طيات الحياة العميقة ، و هو ينساب بحنان من بين شفتيها الهرمتين . 
إحساس بالأمان و الحنين كان يجتاحها و هي تجالس جدتها و  تتذكر تلك الإجتماعات العائلية الحميمية  مع أسرتها قبل أن يتفرق أفرادها و تبقى و حيدة لا ملاذ لها إلا جدتها .
جميلة كانت تلك الأوقات و حلوة هي ذكرياتها ، لكن الحياة كعادتها ، سلبت منهم السرور الذي وهبت و خلفت آثار خناجرها في القلوب المتألمة .

كانت ليلى تنصت إلى الجدة التي تحكي ذكريات عصرها، الذي مضى و اندثر و كفن بين صفحات التاريخ، بنوع من الحنين و الحب ، عيناها و هي تتحدث كانتا غائبتين في صور ذلك الوقت الجميل و صوتها يبدو بعيدا كانه ينبعث من غياهب البئر  ، و روحها تهوم في ذلك الفضاء البعيد ، كانت تهمس بصوت فيه رعشة معاناة و هي تقول :

"…. يا بنيتي ، كنت عروس ملك ماتت زوجته السابقة ، و كانت له ابنة وحيدة تحاكي القمر في جماله ، هي كل ما خلفته الأم الراحلة .  أحببتها كما أحببت ابنتي ، ففد كانت فتاة شقية و لطيفة مثلها  ، وعندما أنجبت أمك صارتا صديقتين مقربتين ، كانتا تقضيان وقتهما معا و لم تكونا تفترقان أبدا .

مرت الأيام و كبرت الفتاة ، و تغيرت الحال ، صارت ترى في وجودنا قربها تهديدا لها ، كانت تعتقد أننا نستغل أباها من أجل عرشه ، فصارحته بالأمر لكنه جزرها و أنبها تأنيبا شديدا ، فغادرت القصر لتعيش في بيت في الغابة رفقة حرس أبيها السبع ، و لم نسمع منها شيئا منذ ذلك الحين .
وذات يوم أصيبت بمرض خطير ، فذهبنا لزيارتها  و أحضر الملك اﻷطباء لمعالجتها لكن لم يستطع أحد منهم تشخيص حالتها ، فحزن الملك حزنا شديدا ، و فقد أمله في علاج ابنته و استسلم . لكن الله ألهمني أن فراجها على يدي  ، ففحصتها ، و علمت أن ما سبب الداءو البلاء هو تفاحة مسمومة تناولت منها شيئا فعلقت في حنجرتها ، و علمت أن إبلالها يكمن في دواء هو خلطة من الأعشاب و المستحضرات التي يجب استخلاصها من الغابة  ، فحضرته بيدي و سقيتها إياه ، فشفيت على الفور و قامت سليمة معافاة . و عم الفرح و  السرور و عادت البسمة للوجوه . لكن الأميرة بعد اببلالها اتهمتني بانني من تسبب في مرضها ، اتهمتني بأنني من أعطاها التفاحة المسمومة ….."

لم تعد ليلى تستمع إلى ما تقول جدتها أو ما تحكي ، فقد ملت الكلمات كانت تتغنى بأحرفها . وسئمت تلك القصة التي تعيدها كل مرة ، و تلك الأحداث التي لا تتغير ، بدءا بزوجها من الملك و انتهاءا بهروبها للعيش وسط الغابة مع ابنتها بعد اتهامات الأميرة ، قد  أضجرتها و ضاقت بها ليلى ذرعا . فسلمت الأمر لزمام خيالها ليبحر بها في فوضى أفكارها  ، على وقع كلمات الجدة الساحرة التي تراقص أذنيها كسمفونية عريقة .

كانت غارقة في تخيلاتها و هي تفكر  في معارك الحياة التي مازلت تنازل فيها الوحدة و المعناة و اليأس وجها لوجه و لم تستلم . فكل تلك اﻵلام التي واجهت لم تكن سوى قشرة تغلف حياتها عليها ان تتحطم و تبلى حتى يبرز إدراكها من ظلمة الارض الى نور السماء .
أكانت الحياة تختبرها بالصعاب التي تحطها في طريقها  و تعدها لما هو أعظم ؟من يدري لكنها كانت تدرك شيئا واحدا أن المعاناة لم تنتهي بعد .

 الذئاب لا تنام حيث تعيش القصص. اكتشف الآن