الفصل السابع: خبرة

247 27 5
                                    

أيقظتني والدتي في اليوم التالي من حُلْمٍ جميلٍ لم أكن أريدُ الاستيقاظ منه، سألتها بعين ناعسة يملأها العتب والتأسف ووجهٍ متثائب خامل "كم الساعة الآن؟"، فأجابتني وهي ترمُقني بنظرات متعجبة "إنها الحادية عشرة والربع ... ليس من عادتك أن تنام إلى هذا الوقت ... ماذا حدث لك؟"، أخبرتها أنني لم أتمكن من النوم ليلة البارحة بسبب إفراطي في شرب القهوة، فأنبتني قليلاً  ثم طلبت مني أن أستعجل في النهوض لمرافقة والدي إلى الجامع لأداء صلاة الجمعة.

والدي رجلٌ ميسور الحال، عمل حين كان شابًا في شركة اتصالات وادخر من عمله ذاك مبلغًا صغيرًا من المال بدأ به مشروعه الخاص، ومنذ ذلك الحين ومشاريعه التجارية هي التي تحظى عادة بجل وقته واهتمامه، لا أعني أنه لا يولي اهتمامًا لعائلته، بل بالعكس، هو يتمنى لو كان في وسعه تخصيص المزيد من الوقت للعائلة لكن المشاغل والأعمال تأبى أن تمنحه ما يريد، لذلك أصبح يقدر الوقت الذي يقضيه معنا أشد تقدير، وغالبًا ما يبدو عليه الانزعاج الشديد حين تزاحم اتصالات العمل الوقت الذي خصصه ليقضيه معنا.

اعتاد في كل مرة يصطحبني فيها إلى صلاة الجمعة أن يسألني عن دراستي وعن أحوالي ويحدثني عن تحديات  العمل والحياة وكيفية تعامله معها، فعمله في التجارة الحرة جعله يدرك تمامًا أن الدراسة وحدها لا تظمن للانسان النجاح الحقيقي في الحياة، وأدرك أنه أخطأ حين منعني من خوض تجربة الحياة وتحدياتها في طفولتي وصباي، لذلك أصبح شديد الحرص على تداركي بكل ما اكتسبه من معرفة وحكمة.

أما والدتي فمنحتني كل الاهتمام في طفولتي، وما زلت أشعر أنها أقرب لي من والدي، فهي التي اعتدت أن أحدثها عن مشاكلي وهمومي ، وهي التي اعتدت أن أبوح إليها بأسراري، وحين وصلت أنا إلى المرحلة الإعدادية وأصبح الفراغ يشغل جزءًا كبيرًا من وقتها ويشعرها بالسآمة والضجر طلبت من والدي أن يجد لها عملاً مناسبًا لتشغل به فراغها، فتوسط لها في إحدى شركات التأمين التي تربطه بصاحبها علاقة عمل وصداقة.

وصلنا أنا ووالدي إلى الجامع في الوقت الذي شرع فيه الإمام في خطبته، وكان قد قرر أن يخصص خطبته تلك للحديث عن ظاهرة انتشار الإلحاد بين الشباب، فشرق وغرب وأرعد وأبرق وأرغى وأزبد ونحن جالسون كأن على رؤوسنا الطير لا ندري ما يقول، فما أقبح بالمرء أن يتحدث فيما لا يحسن، لا أشك في صدق نية الإمام وإخلاصه، فهو شيخ معروف بالورع والصلاح عند أهل مدينتنا، ولكنه لم يكن مضطرًا لتكلف الحديث فيما لا يعلم، ولو استمع أحد الملاحدة من طلاب جامعتنا لهذا الكلام لاتخذ منه سببًا للتندر والسُخْرية.

أتذكر أنني حاججت ملحدًا من طلاب فصلنا مرة من المرات فسخر من ديني ومن معتقداتي سخرية أصابتني بالامتعاض والإشمئزاز، فندمت على حديثي معه في هذا الموضوع، خصوصًا أن علاقتي به كانت جيدة ولم أكن بحاجة لتكديرها بهذا الجدال، وفوق ذلك ظلت الأسئلة والإشكالات التي جبهني بها تؤرقني إلى الساعة وأنا أحاول جاهدًا أن أتجاهلها وأتناساها.

انتهى الإمام من خطبته الأولى التي طالت دون طائل، واختصر الثانية، ثم صلى بنا صلاته المخففة المعتادة عملاً بالحديث الشريف (أيكم أم الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف وذا الحاجة)، وحين انصرفنا من الصلاة، أخرجت هاتفي من جيبي ونظرت فيه ثم أعدته إلى جيبي مرة أخرى، كررت هذا التصرف أكثر من مرة، حتى بعد عودتنا إلى المنزل وجلوسنا على مائدة الغداء وضعت الهاتف أمامي لتستمر عيني في مراقبته، فانتبه والدي لتصرفي والتفت إلى والدتي وقال لها ممازحًا "يبدو أن ابنكِ الذي اعتاد تسديد الأهداف، قد تلقى هدفًا في شباكه هذه المرة"، لم تفهم والدتي ما عناه والدي بهذا الكلام، لكنني ابتسمت من كلامه وأعدت الهاتف إلى جيبي، وعدت لأكمال غدائي.

الشظية الضائعة من قلبيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن