الفصل السادس

4.5K 112 1
                                    

مر يومان على رحيل "شيز" , وبذلت الشابة كل جهدها لتطرد الفكرة الرهيبة التى نمت في روحها . ولكنها لم تعد تتحمل اكثر من ذلك .
اتجهت نحو "السوبر ماركت" ولكنها تراجعت , انها لا تستطيع ان تذهب الى اى مكان بزيها هذا , لقد كان "شيز" قاطعا .. انه لا يريد ان يعرف الناس ان امرأة تعيش تحت سقف بيته , وحتى وإن لم يشرح لها السبب في هذا االمطلب , فإنها ليست متمسكة بان تفعل أي شئ كان يمكن ان يخلق لها مزيدا من المشاكل , عادت الى البيت وهي تنوي ان تجري بعض التغييرات في زينتها.
# # #
عندما ركبت السيارة القت نظرة على المرآة العاكسة . لقد اخفت شعرها تحت قبعة ضخمة من قبعات رعاة البقر عثرت عليها في دولاب الملابس . وارتدت سترة ضخمة بحيث تخفي بروز صدرها . بل إنها غطت وجهها بالهباب محاولة التخفي . بدا وجهها قذرا بدلا من اللحية التى حاولت ان تصنعها بالهباب . ولكنها اقتنعت بأن الناس سيعتبرونها رجلا .
بعد بضع دقائق من السير في الطريق ظهرت بلدة "الفرس المطلي" عند الناصية . سعدت برؤية المدينة في أحضان الوادي . وقالت في نفسها ان جمال المنظر الطبيعي هو علامة على انها احسنت صنعا بالقيام بهذه الرحلة الصغيرة .
تجنبت ان تركن السيارة في الشارع الرئيسي وفضلت ان تضع الشاحنة الصغيرة في حارة . وعندما اتجهت الى وسط البلد بدا مكتب البريد مهجورا . يبدو ان كل السكان تواعدوا على اللقاء في بعض المنشآت : الرجال عند الحلاق والمطعم . والنساء عند صالون التجميل . بعد نصف ساعة عادت وهي تحمل كيسين كبيرين . لقد انفقت تقريبا كل مدخراتها ولكنها كانت سعيدة بالستائر الصفراء . والوسائد التى عثرت عليها . اشترت أيضا سجاجيد وانية معدنية للمطبخ ذات الوان مبهجة وزهرية ضخمة لتضع فيها الزهور البرية .
كان أملها الوحيد ان يفهم "شيز" مجهوداتها ويقدرها وان يشكرها عليها . لقد مر وقت طويل وهو يعيش في هذه المقبرة لدرجة انه لم يعد يحس بمدي كآبة المكان . لابد ان يضيف شخص ما لمسة حياة الى هذه المقبرة الكئيبة . يجب ان تبين له ان الامور يمكن ان تتغير كثيرا بقليل من الخيال .
قبل ان تغادر المدينة توقفت عند الصيدلية . إن "شيز" لم يفكر في احتياجاتها الشخصية عندما كان يقوم بالشراء . قالت في نفسها : إنها أشياء لا يفكر فيها الرجال . لقد كان والدها منهمكا في ابحاثه الطبية حول الامراض الاستوائية . لدرجة انه رحل لدراسة نوع جديد من الملاريا عندما كانت زوجته على وشك ولادتها . بالتأكيد امها "ساره" كانت طبيبة هي ايضا . وهي قادرة تماما على التصرف في الولادة بمفردها . ولكن "آني" كانت دائما تتساءل كيف استطاعت امها ان تتحمل كل تلك المحن ؟ لقد كانت الغابة مكانا مخيفا وجميلا في آن واحد .
فكرت "آني" انها ليست الغابة التى قتلت والديها .. خطرت على بالها هذه الفكرة وهي تدخل الصيدلية .. إنما الرجال هم الذين قتلوهما , لقد رفض والداها ان يتركا أهالي البلدة . لقد انقذ الهنود الحمر حياة "آني" ووجدت ملجأ في الدير .
# # #
صاحت "آني" في حماس . وهي تتأمل التغيير الكلي الذى احدثته خلال ساعات قليلة . انها معجزة .
لقد اصبح المنزل الدار الصالحة لتحقيق حلمها , بل إنها الدار الوحيدة التى حصلت عليها حقا . ما إن وصلت الى البيت حتى انطلقت تعمل بحمية ونشاط محموم , ولم تترد في إفراغ كل الدواليب لتنظيفها , وعثرت على كل الاشياء الغريبة في الادراج , وبالتأكيد وجدت كمية هائلة من الغبار . وربما كان غبارا منذ فجر التاريخ .
عثرت ايضا على صورة فوتوغرافية قديمة لـ "شيز" بصحبة "جوني" و"جيوف" في الوقت الذى كانوا يعملون فيه جنودا مرتزقة . لم تستطع "آني " ان تمنع نفسها عن التفكير في البطل الشاب الذى أنقذ حياتها . نظرت في خلف الصورة ووجدت ان "شيز" خط بضع كلمات : المهمة الاولي . إيران . تم تحرير عشرة سجناء أمريكين . نجحت المهمة .
احست الشابة بأنها فريسة موجة اجتاحت روحها . فوضعت الصورة مكانها واستأنفت العمل . وعندما انتهت من التنظيف الاكبر رجعت اليها روحها المرحة .
علقت الستائر ووضعت الوسائد على مقاعد المطبخ . كما وضعت السجاجيد في الصالون بعد ان لمعت "الباركيه" بالورنيش . ثم وضعت بعض الزهور في المزهرية . كانت النتيجة مبهرة . 
كان المكان الوحيد الذى لم تدخله هو حجرته الخاصة.
قالت في نفسها : إنها مجرد نظرة سريعة فقط وهي واقفة على عتبة الباب . عندما اقتربت من الباب اخذ الكلب ينبح . القت نظرة على الغرفة كان كل شئ وهي عند العتبة يبدو طبيعيا . لاشئ سوي ان عدم وجود نوافذ هو الامر غير الطبيعي .
كانت على وشك الانسحاب عندما اجتذب انتباهها بريق معدني نحو اقصى ركن في الغرفة السوداء . لم تكن الجدران قائمة عمودية مثل جدران البيوت العادية بل بدت ايضا غير متساوية . فكرت انها مبنية بالحجارة . لقد لاحظت من الخارج ان البيت مقام على كتلة من الجرانيت الصلب . ولكن لم يخطر على بالها ابدا انه ربما كان محفورا وسط التل .
اعتادت عيناها على العتمة . ثم لاحظت شكل باب لاشك انه يؤدي الى كهف تحت الارض . كان الانعكاس الضوئي الذى جذب انتباهها يأتى دون شك من شبكة بوابة حديدية . كانت مبهورة وهي تدخل الحجرة . كان "شادو" الذى لم يكف عن الزمجرة قد اخذ في النباح الآن بكل قواه .
صاحت به :
- صه .. إنني فقط أريد ان القى نظرة سريعة . 
حاولت فتح البوابة الحديدية ودهشت عندما وجدتها تنفتح بسهولة , أين اذن الترباس والقفل . لابد انه نسى ان يغلقهما . أيا كان السبب فقد رأت في ذلك دعوة لها لكي تستمر في تفتيشها . وعندما فتحت الباب انطلق "شادو" ينبح كالمجنون ولكن رد فعل الكلب لم يفزعها , كانت دياجير الظلام تسود النفق مما جعلها تترد .
بعد لحظات استخدمت اعواد الثقاب التي وجدتها فوق رف المدفأة . وتوغلت في النفق حيث تعثرت . ووقعت في كهف يبدو طبيعيا وليس من صنع الانسان لم تعثر علي أي لعملية مرور حديثة بالنفق , ولا أي علامة تمكنها من ان تستشف فيم يستخدم الكهف والنفق . همت "آني" ان تستدير نصف دورة عندما لمحت نفقا آخر بشكل زاوية ( ثمان واربعين ) درجة مع النفق الاول .
هذه المرة قاومت فضولها . وقالت لـ "شادو" :
- هيا بنا نعود يا "شادو"
عندما تراجعت في طريقها أحرقت "آني" اصابعها وهي تحاول اشعال عود ثقاب . كان الالم شديدا لدرجة جعلتها تسقط العود وكذلك علبة الثقاب , ووجدت نفسها غارقة وسط العتمة .
تملكها الخوف وركعت على ركبتيها لتبحث عن العلبة وهي تتحسس الارضية . كانت الارضية مثلجة ورطبة تحت اصابعها . واحست بشعور مفزع , إنها تلمس شيئا حيا ولزجا , صاحت وهي يائسة من وضعها :
- "شادو" تعال هنا .
ان الكلب يمكنه ان يقودهما هما الاثنان .
- أين أنت يا "شادو"؟
استمرت تناديه وهي تتقدم كالعمياء . هناك امر ما ليس على مايرام .. أين ذهب الكلب ؟ كل شئ اصبح فجأة هادئا للغاية . وكانت رائحة الارض الرطبة خانقة .
- "شادو " !
كانت تسمعه وهو ينبح لكن النباح كان بعيدا جدا , نهضت لتسير في اتجاه النباح لكن الارض الطينية انهارت تحت قدميها لتسقط في الاعماق صرخت وهي تسقط :
- "شيز" !
# # #
مرت ثلاثة ايام و"شيز" يطارد آثار اللصوص دون جدوي . قال في نفسه :
- إنهم سحرة حقيقيون .
كانت الرحلة علي ظهر الجواد قد جعلته يشعر بالاسترخاء . ولكن رغم جهوده فإن ذهنه دائما ما كان يعود الى المرأة التى في انتظاره , لم ينجح في أن يطردها من خياله طوال الرحلة . وتساءل ان كان سيجدها لا تزال موجودة عند عودته .
لقد دخلت حياته بطريقة غريبة جدا لدرجة انه كان يتوقع ان تخرج من حياته بصعوبة .
إن فكرة ان يراها ترحل تجعله يشعر بإرتياح شديد , ولكن ما إن يراجع نفسه حتى يحس بداخله بإحساس غريب يتصاعد ويتزايد , وبرغبة شديدة في أن يراها ثانية .
إن الامر اصبح شديد الخطورة وهو يعرف ذلك . ولكن كان من الواضح انه من الصعوبة عليه ان يكتم عواطفه نحوها .
طرد افكاره وعاد الى الانطلاق بجواده . إن الصور المبالغ فيها والافكار الغريبة لاتكف عن مطاردته منذ تباشير الفجر . ولايوجد شئ يمكن ان يمحوها . صورة شعرها الاحمر وقد تبعثر على وسادتها . وشكل أنفها الصغير الغريب لسبب مجهول يجد لديه رغبة شديدة في ان يداعب ذلك الأنف .
صور وافكار غريبة تطارده ليل نهار , وكلها تدور حول تلك المرأة التى تدعي انها زوجته وانهما مارسا حياتهما الزوجية الطبيعية وهو لا يذكر ما حدث وإنما فقط يتخيله ود ولو مرة واحدة أن يستمر معها للنهاية دون أن تنتابه الشكوك وحالات إغمائها وصوت الصفير بداخله الذى لا يكف عن تحذيره من التمادي في علاقته العاطفية معها . هل ما يطلبه كثير على رجل يائس ؟
همهم بصوت منخفض :
- لو اراد الله ان يرحمني لوجدت "آني" وقد رحلت عند عودتي !
ارتفعت الشمس فوق التلال عندما اقترب "شيز" من السهل المنبسط الذى يحتضن منزله , إنه لا يري أي علامة على الحياة داخل البيت , ولكن ربما لم تستيقظ بعد فلايزال الوقت مبكرا . او ربما استجابت السماء لدعوته !
كان الباب مفتوحا على مصراعيه . وبينما كان يهبط من فوق الجواد أسرع "شادو" نحوه مال عليه ليداعب الحيوان الثائر جدا .. لا أثر لـ "آني" على الاطلاق الامر الذى بدأ يحيره . صاح في وجه الكلب الذى لم يكف عن النباح والقفز :
- الهدوء يا "شادو" .. ما الذى حدث ؟
وقف مسمرا امام الباب , وقد غمرته موجة شديدة من الغضب . لقد حولت بيته الى صالون جنائزي . صاح – وهو يلتفت نحو "شادو" مناديا عليها :
- "آني" ما الذى حدث لـ "شادو" ؟
سحبه الكلب نحو غرفته وهو يتأوه . تردد "شيز" لحظة . كان الباب المفتوح هو اول مالاحظه عندما دخل الجحرة وهمهم :
- يا إلهي ! يا إلهي !

زواج بالقــوة ) للكاتبة فلورنس كامبل  حيث تعيش القصص. اكتشف الآن