بداية جديدة

12 3 0
                                    

      مضى شهر كامل على إفتراق محمود و قدر ، رمت المسكينة جميع مسكناتها ومهدئاتها بمساعدة من إبنة جارتها إيناس التي أصبحت صديقة لها ، و أخذت مفاتح المنزلين المتبقيين ذكرى من زوجها و اتجهت إلى بيت العائلة ، و ما إن ولجت حتى سقطت الذكريات كالحجارة على رأسها ، ففي كل زاوية منه ذكرى جميلة قضتها رفقة أحدهم ثم ذهبت إلى بيتها و نقلت جميع الأغراض من هناك ؛ و إستقرت لحالها في بيت الأسرة الدافئ و أعادت لصق صورهم في كل حائط كي تدعو لهم كلما لمحت وجوههم .
       إنعزلت لحالها تفكر فيما ستفعله بحياتها بعدما بقيت وحيدة من دون سند ، أخذت دفترا جديدا و كتبت على صفحته الأولى : سقطة سرمدية . ثم تركت العنان لخيالها ، ليسرح قليلا و إتخذت من الكتابة علاجا لها يشفي روحها العليلة . و صارت تداوم عليها بشكل يومي ، كان هدفها أن تريح تلك القطعة المكسورة يسار صدرها. لا غير .
        زارتها ذات مرة صديقتها إيناس و الطبيبة النفسية التي عالجتها في فترة زفافها ،  لاحظوا تحسنا في حالتها فسألوها عما يحدث من مجريات في حياتها فأرتهم ذلك الدفتر المعجزة الذي دونت عليه كلماتها و مكنوناتها و تركت لهم الفرصة ليقرؤوه فبهرتا بمحتواه ، فهي كانت ذات هبة رائعة، بإمكانها الكتابة رغم أنه لم يتسنى لها إكمال دراستها فأخذتاها إلى أحسن دار نشر و تم مناقشة الأفكار التي دونتها ، و أعجب كل من قرأ من كلماتها بقدرتها على التحمل و نعتوها بالمرأة الصلبة ؛ تعاون معهاالجميع وجعلوها تؤمن أنها قوية لا تهزم ، صبورة لا تستسلم ،و حنونة لا تظلم فقررت تكريس حياتها لفعل الخير .
و ما هي إلا أشهر قليلة حتى ذاع صيتها بسبب الكتاب الذي دونته و صار علاجا للكثير من الشبان الذين يقررون إنهاء حياتهم دون التفكير في العواقب و جمعت أموالا طائلة تكفيها للعيش بهناء مدى حياتها . إلا أنها كانت مصرة على تكريس أعوامها لخدمة الأطفال فأخذت أول دفتر لها و قرأت أول قائمة دونتها عن أحلامها ، و ارتسمت البسمة على شفتيها فمحمود عمل على تحقيقها جميعها . ثم تذكرت أنها كانت تدخر مبلغا كبيرا في  صندوق التبرعات الذي صنعته قبل سنوات ففتحته لتفاجأ بظرف بريدي .
فتحته و يداها ترتجفان :حبيبتي ذات القلب الحنون الكبير ، أتعلمين لما أحبك! لأن قلبك دافء و رؤوف ، تحبين مساعدة الجميع و إرضاءنا دائما ، تدعميننا و تحفزيننا على أن نكون أقوياء ، كنت أعلم أنك تخططين لشيء ما و أصابني فضول شديد ففتشت بين أغراضك و وجدت هذا الصندوق ، أبهرتني فكرتك هاته ،أعجبت بك و بطريقة تفكيرك في الأخرين على حساب سعادتك لهذا كنت أساعدك خفية واضع بعضا من المال كل ليلة ، مكانتك تزداد توسعا بقلبي ، أعلم أنني لن أكون معك يوما ما ، سأغادر قبلك فأحساسي لا تكذب ، أرجوك إعتني بإبننا جيدا ، درسيه و أتركيه يختار شريكة حياته . علميه حب الوطن و لكن أرجوك لا تتركيه يذهب لهناك. أبقيه إلى جانبك و سأظل أنا أسري في عروقك يا حبيبتي قريب دائما حتى و إن لم أكن موجود ...
        فتحت جراحها بعد محاولات عديدة من مداواتها فهي لن تندمل أبدا لأن القلب إذا ما صدق في حبه لشخص ما سيطعن ألف طعنة إذا ما طعن حبيبه طعنة واحدة ،و  سيتألم ضعف ما يتألم حبيبه . نهضت قدر و مسحت الدمع عن خديها و هي تردد : لا مزيد من البكاء فحبيبي و إبني في الجنة . ثم أخذت تلملم المال الذي جمعته و تذكرت قطعة الأرض التي أهداها لها زوجها فتوجهت إلى أول مكتب عقارات لتبيعها وحالفها حظها بأن تم البيع سريعا ثم أخذت ما جمعته و إتجهت إلى أقرب قارب ، و تواصلت مع أحد أصحاب محمود القاطن بفلسطين ، أخبرته أنها قادمة لهناك فليتجهز لمساعدتها كي تعبر الحدود ، حاول منعها و تغيير رأيها إلا أنها كانت مصرة للغاية على دخول الوطن ، فتمت العملية على خير و صارت قدر بقلب فلسطين ؛لم تواجه كثيرا من المشاكل في طريقة كلامها فمحمود قد لقنها الطريقة الصحيحة لنطق بعض الكلمات .
إستقرت لدى صديقه لبضع أيام ؛ و لم تقصر زوجته في خدمتها فقد جعلتها تتذوق جميع الأطباق الفلسطينية التي كان زوجها يحدثها عنها. و تجولت في جل المناطق بغية التعرف على. المركز الذي ستركن فيه وتضع ركائزها فهي قدمت عازمة على عمل تغيير في النفوس  و لو بشكل بسيط .

سقطة سرمديةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن