الرجوع

7 3 0
                                    

كانت قدر تأبى التغذي و استحال إرضاؤها بأي شكل من الأشكال إلى أن وصلتها أخيرا رسالة من محمود كتب فيها :
اليوم يا حبيبتي أنقذت أكثر من مئة أسير من عذاب الصهيوني و كلهم يدعونلك تكوني بخير أنتي و إبني و الوالدين . سأعود قريبا و سنكون معا مجددا سيلتم شملنا و لن أتركك مجددا سأكون ظلك ، سأحميك و أحمي إبننا. سنكبره معا و نعلمه ليصبح دكتورا ، أعدك أن حياتنا ستكون مختلفة يا حبيبتي أعدك بذلك .
    قدم محمود إستقالته و ودع وطنه للمرة الأخيرة ، الإختيار بين حياته و وطنه كان صعب للغاية و لكن عائلته كانت بحاجة شديدة إليه بجانبهم .
للأسف لم يلحق على ولادة صبيه فقد واجه مشكلة التنقل من مكان لأخر بعد ضياع هويته إلا إنه إستطاع بشكل ما الوصول إليهم في يوم غير متوقع . كان منهكا من التنقل بين العبارات و بين أغراض اللاجئين ليرى معاناتهم الشديدة ، عانى من الألام و العذاب لرؤية الناس تخاطر بحياتها بين طيات أمواج البحر وكانت أخر رحلاته أصعبها بالرغم من حنينه إلى عائلته و ما إن ولج إلى المنزل حتى سقط أرضا من شدة الوجع فضمته والدته محاولة التخفيف عنه ، و لتلطيف الجو صارت تقول : أنت كبير الأن لو يراك باسل سيضحك ، هو الأجدر بالأحضان و ليس أنت أيها الثور ، فعادت إليه البسمة : حتى أنت يا أمي أصبحت تتكلمين مثلها ! كنت أظن أنني الوحيد الذي أصابته بالجنون .
      ثم رآها مستلقية على السرير تنام كالملاك ، و إلى جانبها فلذة كبده الذي إستيقظ ما إن أحس بوجوده ، فحمله لأول مرة بين يديه و صار يؤذن له و  يتلو على مسامعه بعضا من سور القرآن ثم جلس إلى جانب قدر و إبنه بين يديه  يحمد الله على النعمة التي هو فيها حتى بكى من شدة تأثره . فبكى الصبي بين يديه كما لو أنه يقلد حركات والده فإستيقضت قدر لتأخذه إلى حضنها بسرعة و هي تنادي : محمود إبني . فرأت زوجها يحمله ،ظنت أنها تعيش حلما جميلا أخرا فهما  إلى جانبها أخيرا ، قبلته و مسكت يديه و صارت تتحدث كثيرا كعادتها حتى سكت الرضيع كما لو أنه يتجهز و والده لسماعها تثرثر من شدة الإشتياق فتلك كانت عادتها للترحيب بمحمود ثم أوقفها ليسألها: لما ناديت إبننا بإسمي أم أنك رأيتني بحلمك ! فردت عليه : الإثنين أراك كثيرا بأحلامي و أحب مناداته بإسمك كي يألفه و يتعرف عليك حتى و إن لم تكن قريب ، كان محمود في أوج تأثره بالأحداث التي صارت دفعة واحدة فإستلقى إلى جانبها و وضع إبنهما بينهما و قال : فلنأخذ قيلولة لأول مرة معا يا ذات القلب الدافئ .
غفوا معا إلى أن حان وقت طعام الصغير الذي إقتطع نومهما و أيقظهما ببكائه ، و كان محمود يحاول عيش اللحظات لحظة بلحظة فقد إفتقد وجوده معهم كثيرا . و أمضى شهرا يحاول مساعدة زوجته بكل المهام التي تقوم بها ثم قررا أخيرا أن يعود إلى منزلهما و كان قد جهز محمود غرفة الصبي كمفاجئة لقدر التي أعجبت بها كثيرا ما إن رأتها، ثم بادر يبحث عن عمل ثابت  يسترزق منه ، فعمل كمحاسب في أحد الشركات التي أمنت له مبلغا ماليا معتبرا يكفيه أن يهتم بعائلته بشكل جيد و إستقر أخيرا مع أسرته الصغيرة. و عمل جاهدا على إسعاد قدر و إبنه مع الإهتمام بوالديه ، كان جد ممتن لأنه لم يواجه أي مشكلات فكل شيء يسير على ما يرام .
   بدأت قدر صفحة جديدة اخرى خطت عليها قصة حب مليئة بالكفاح ، دونت عليها كفاح زوجها الذي ظل يسرده عليها لليالي طويلة كما دونت كفاحها مع الحمل وإنتظارها لزوجها بشغف ، لانهما لم يستسلما بل ثقتهما بالله كانت دائما أكبر من المتوقع . و معا شهد الزوجان أولى خطوات إبنهما ، و أولى ضحكاته و كبر باسل ليصبح إبن الخمس سنوات ، و كانت قدر قد خصصت مبلغا ماليا لأطفال فلسطين دون علم زوجها، لتتبرع به لهم منذ أن أخبرها بالمأساة التي يعانيها الأطفال هناك .
        حياتهما الجديدة كانت تملؤها السعادة و راحة البال ، يعود الوالد محمود من العمل لتستقبله زوجته بحنانها و أكلها اللذيذ ثم يستريح قليلا ليأتي صغيره من الحضانة فيستقبل والده بالقبلات و يسأله عن ألعابه التي وعده بها . ثم يأخذهم في جولة إلى بيت الجدين أين يقضون وقتا ممتعا جميعهم .

سقطة سرمديةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن