ضربات الحياة

11 2 0
                                    

ساءت الأحوال بالمنزل فأم محمود صارت قليلة الحركة شاحبة الوجه ، و غابت البسمة عن وجه الوالد و أسدل الحزن اغطيته على البيت برمته  فصار الإبن يفتش عن الأسباب و دخل خلسة إلى غرفة والديه ليجد العديد من الوصفات الطبية و  الأدوية مبعثرة على طاولة الزينة فأصابه الذعر و صار يقرأ ما كتب عليها ليتلقى صدمة جعلته ينهار أرضا، كل ما كتب على الأوراق يؤكد أن والدته مصابة بفشل كلوي فأخذ تلك الوصفات و هرع إلى غرفة المعيشة و ركع  أمام أرجل والدته و هو يبكي كالطفل الصغير يردد : خائف أنا يا أمي خائف لا أريد أن أفقدك . فسقطت دموعها دون أن تصدر صوتا ثم تكلم والده : لم نكن نريد إخفاء الأمر عنكما و لكننا عجزنا عن حله يا إبني .. فساعدت قدر محمود على النهوض و حاولت مسح كتفه و هي تهمس له : قف على قدميك و كن أنت مصدر قوتهما ، بالرغم من عدم علمها بما يحصل فهي غالبا ما كانت تلتزم الصمت في المناقشات الخاصة بأمور الأسرة . ثم أمسك الولد يد والديه و أجبرهما على أن يذهبا معه إلى المشفى و ما إن وصلوا إلى هناك و أجروا التحاليل تعذر على الطبيب طمأنتهم لأن المطابقة بين الوالدة و إبنها كانت شبه معدومة فهو قد تضرر خلال خدمته العسكرية فعادوا إلى المنزل خائبين و ما إن ولجوا إلى المنزل حتى أسرعت قدر للمساعدة و ما إن رأت حالتهم الميؤوس منها حتى صارت الدموع تنهمر كالمطر على خديها و ساعدت الوالدة على الإسترخاء في فراشها ثم لحقت محمود إلى سطح البيت لتجده غارقا في التفكير فإحتضنته و هي تردد : الله الشافي لا تحزن الله الشافي . و مرت أيام قليلة و الأحوال لا تبشر بخير . فقررت قدر تقديم المساعدة فأخذت بعضا من تحاليل أم محمود إلى المستشفى باكرا من دون علم أحدهم  لترى إن كانها بإمكانها التبرع لها و يا للبشرى الجميلة ! نعم بإمكانها فعل ذلك من دون أي مشاكل صحية ثم عادت إلى المنزل و  حضرت وجبة الفطور كالعادة و كان محمود أول الصاحين إنتظرت جلوسه لتخبره بسرها الصغير و ما إن تفرغ لها أخبرته و الحماس يملؤها حتى أنها تناست أن هذا الشيء بإمكانه أن يؤثر على صحتها مستقبلا ، فصدم للخبر المفرح و صار يقفز و يصرخ : يا الله يا الله! و هي الأخرى سعيدة برؤية ضحكته من جديد . و إستبشرت باقي العائلة خيرا و تمت العملية الجراحية على مايرام و لكن بقيت كلاهما مقعدتا السرير لمدة معينة فأخذ الرجال الأعمال المنزلية بالدور و صار محمود و أبوه  يخدمانهما طيلة فترة العلاج .      
    حل الربيع ، و حلقت العصافير تغرد فرحا و غبطة . و إستعادت أم محمود و قدر عافيتهما و تحسنت الأوضاع بالمنزل ، لهذا أراد محمود مفاجأة قدر بأن يقيم حفلة عيد ميلاد لها  . فعمل جيدا على تحضير الحلويات التي تحبها و تزيين المنزل بالورود الحمراء  . و اتفق مع والدته على أن تأخذها معها للتسوق ، و ما إن عادتا حتى قفز من وراء الباب يغني كالصبي الصغير و يهتف بإسمها مع وضع المفرقعات ، و لكن الصدمة كانت بادية على وجهها فهي لم تحظ يوما بعيد ميلاد إلا بعدما أكملت العشرين عاما فصارت تبكي بدل أن تفرح و اخبرته عن أول سر فإستغرب كيف أنها لم تحظ يوما بحفلة كهاته فصرخت في وجهه : لقد تربيت في الميتم مع فتيات بائسات مثلي كنا نتقاسم قطعة الخبز فهل تظن أننا تذوقنا يوما مثل هاذا الكعك ! أنا لا اريد مفاجئات أخرى يا محمود .. و دخلت إلى غرفتها و ظلت تبكي فهي لم تتذوق مثل هاته السعادة منذ أن قدمت إلى الحياة . كانت مشاعرها مختلطة فهي ادركت أن ردة فعلها مبالغ فيها فإنتظرت الى أن حل منتصف الليل و ذهبت لتجلس إلى جانب محمود و أخذت الدفتر الذي كان لوالدتها و جعلته يقرأ ما كتب عليه ، فهي أخيرا إستطاعت الوثوق به قليلا كما أنها كانت تعلم أن ذلك الدفتر بإمكانه أن يجيب عن بعض الأسئلة التي بقيت معلقة في ذهنه .
     باشر محمود في تقليب الصفحات التي أخذت منه ساعتين من الصمت في حين كانت قدر تراقب تعابير وجهه التي كان يبدو قلقا من خلالها و ما إن أنهى المأساة التي كان بصدد قراءتها ، إقترب منها و ضمها بشدة إليه، لم يستطع كلاهما الحديث بل ظلا يفكران بصمت إلى أن غفت قدر على صدر محمود الذي كان عليه حملها و أخذها إلى غرفتها لكنها ظلت متمسكة به كفتاة صغيرة بحاجة إلى حظن والدتها . و عاد ليجلس على الأريكة يفكر في الحياة التي ينعم بها محاولا مقارنتها بالمأساة التي عاشتها قدر في طفولتها و كيف تركت وحيدة . حل الصباح لتستفيق كعادتها أولا فوجدت دفترا صغيرا أوراقه ناصعة البياض و ورقة ملاحظات كتب عليها : دوني عنا نحن الإثنان هنا .

سقطة سرمديةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن