ظلامٌ دامس، رائحةٌ كريهة و نظراتٌ منتشية تراقبُ المكانَ بنظرةٍ حيوانيّةٍ مُشبَعة، كان يُمسك بيَدِ الرّجل ذي الملامحِ القاسيةِ و الملابسِ السّوداء، بالأحرى يَسحبُه الرّجلُ سحبًا إلى المبنى الحجريِّ القديم الّذي يبدو، و بعكسِ الأبنيةِ حَوله، أنّه مُعتنىً فيه بعضَ الشّيء.
دخلا إلى غرفةٍ حَوت مكتبًا عتيقًا خشبيّ اللّون مع سريرٍ حديديٍّ مُقابِلَه، أي بجانبِ البابِ على الجهةِ اليُمنى. كانت غُرفةً صغيرة، هذا ما فكّرَ به الفتى بعدَ أن تفحّصها بعينيهِ مُحاولًا تقبُّلَ وجودِهِ هُنا، لم يَقُل شيئًا. قاطعَ صوتُ الرّجلِ الرّخيمِ و الآمر السّكونَ و هو يهتِفُ بِقسوة؛
- "ابتداءً من اليوم سَتَبيتُ هنا، سترافِقُنِي أثناءَ العمل أو تبحثُ لك عن شيءٍ لتفعله، لن أكترث."
قالَ الجُملةَ الأخيرةَ ببرودٍ و عدم اهتمام، تجرّأ الصّبيّ أن يرد بخفوت مسموع و يسأل
- "و أنت يا عمّاه، أين ستبيت؟"
حدجه الرّجل الّذي كان في نهاية عقده الثالث و أجاب
- "إذا كنت تتساءل لمَ لا نبيت معًا أُخبركَ أن شِقّتي صغيرة بما فيهِ الكِفاية، وجودُكَ فيها لن يَدعَ لي مَجالًا للتّنفُّس."
اعتلتِ الصّبيّ نظرة ضبابيّة بعض الشّيء، كان يُفكّر، {هو غالبًا سَيَسْكر فيها لذا بالتّأكيدِ لن يُريدَني، رائحةُ الكحولِ و التّبغِ تفوحُ منهُ على أيّةِ حال}.
هوَ لم يَختر أن يكونَ هُنا، لم يختر أيًّا مِن هذا، كان كعادتهِ يلعبُ مع اْبنِ الوصيفةِ چايك و حين عاد للمنزل وجد أمه تجرّ مع حَرَسِ الأمنِ بين صرخاتها و دموعها، و ملابسها المضرّجةِ بدماء والده، الذي رآى جثّتهُ غارقةً بالدّماءِ برغمِ مُحاولاتِ الخَدَمِ اليائسة لإبعاده.
نظرَ مُجدّدًا إلى المكتبِ العتيق، كانت أقصوصةُ أخبارِ البلدةِ ملقاةً عليه بعدمِ اهتمام مع بعضِ الأوراقِ و الكُتُب، حَوَت في عناوينِها الرّئيسيةِ فضيحةَ آلِ فريمان، تساءلَ بِحُنقٍ عن سببِ وُجودِ هكذا أقصوصة مِنَ الأساس، و عجائِزُ البلدةِ تنقُلنَ الأخبارَ بِدقّةٍ بل و تُضِفنَ عليها بهاراتِهِنّ ببراعة،
فريمان، الاسم الذي التصق بظهر الفتى ذي السّبعة أعوام ليكسره.
بعد إفلاس العائلة و اكتشافِ الزّوجةِ لفضيحةِ زوجها طعنتهُ دون وعيٍ مِنها، أعمَتها الغَيرة، فماتَ مُباشرة و سيقت هيَ لتُعدمَ شَنقًا، الفتى كينيث بقيَ بعُهدة الوصيفة لولا أن برز هذا 'العم' الّذي لم يعلم بوجودهِ أصلًا،
استرقَ النّظر إليه مُضيِّقًا عينيه، سِيثْ فريمان، باحث نفسي في مصحِّ الأمراضِ العقلية، أعزب و مشهور بقلبهِ المُتحجّر، ما كان يستغربُهُ الجميعُ مِنَ الأساسِ أنّهُ قرّر مِن تلقاءِ نفسهِ رعايةَ الصّبيِّ اليَتِيم. شَعَر كينيث بالحُنقِ إزاءَ كلِّ شيء و اصتكّت أسنانه قهرًا، على أنّ تعابيرَهُ لازالت تحتفِظُ بهدوءِها، إلتَفَتَ سِيثْ إليه و قال بِبُرود
- "هناك بطانية على السّرير و في الدُّرجِ الأوّل رغيفُ خُبز، تدبّر أمركَ و نم بِسُرعة، سأُيقِظُك غدًا باكرًا."
قالها و أغلَقَ البابَ خلفهُ بإحكام، تاركًا الصّبيَّ وَحدهُ في الظّلام، ضُوءُ القمرِ كانَ كفيلًا بإظهارِ التّعبيرِ المُخيفِ على وجهِه بينما تلألأتِ الدّموعُ من عينيه رُغمًا عنه.
- ".. سُحقًا..!"
.
.
.
.
كان يجلس وحده في زنزانته الخالية إلا من السرير و المربع الذي لا يتعدى سبع سنتيمترات طولًا بعرض و المدعم بأربع قضبان حديد متعامدة، يحاول التفكير بسببِ تأخّر التّاجرِ شمِتْ عن الاتفاق، لم تخطر بعقله البليد فكرة أو حتى أدنى شك أن هذا التاجر المزعوم سيغدر به لو كان ذلك مفيدًا له، لا يلقي بالًا للصحبة أو الزمن بأي حال.
قطع حبل تساؤلاته الدخول الهادئ لچيلبِرت مكنايت، الشاب الذي يشعره بعدم الراحة دومًا، بابتسامة آلية ألقى عليه التحية ثم قال ببساطة
- "سيّد تشِستَر، لديّ عدّة أسئلة لأسألها لك و بعدها قد تخرج أو لا تفعل، الأمر يعتمد على تعاونك."
جحده الرّجل البدين بنظرة كارهة لكن لم يقل شيئًا. هزّ چيلبِرت كتفيه بلا مبالاة و أزاح كرسيًّا خشبيًّا عتيقًا ليبدأ ما أتى من أجله.
- "إذًا سيّد تشِستَر، ماذا تعرف عن الدّوق ڤيغسون؟"
جفل أسير الزّنزانة لبرهة قبل أن يلتفت بسخط إلى صاحب السؤال.
- "ما شأنك أنت؟! و لماذا تسأل!"
أسكت چيلبِرت زمجرته التي بدت كنباح كلب بأن قال
- "يا سيّد شايموس، أنا من يطرح الأسئلة هنا، كما و أخبرتك أن إجابتك هي من ستقرر مصيرك."
- "طفل وقح. أعرف أنه دوق عظيم الشأن هذا إلى جانب كونه خال ولي العهد المزعوم ويليام كارلِسيل."
- "لو أنه أفرج عنك، هل ستستمر بخدمته أم ستعيش لهدفك الخاص؟"
التفت إليه الكهل باستخفاف و قال
- "مشكلتكم يا أطفال ترون القرارات أبيض وأسود، لا توازن أو اعتدال."
- "إذًا؟"
- "لا أرى مشكلة في تحقيق كليهما."
- "هل لديك ابن؟"
شرد لوهلة قبل أن يجيب بعدم راحة
- "لقد مات."
- "حسنًا إذًا، هذا كل شيء. سيبلغك الحارس بالقرار الذي سيصدر بشأنك في الغد."
قالها و رحل بسرعة، تاركًا الرجل لدوامة تفكيره.
أنت تقرأ
في سبيلِ الوطن.
Adventureثلاثةُ أخواتٍ يبدأنَ رحلتهُنّ نحوَ الاغترابِ و الانتقام، بعدَ ليلةٍ حمراءَ أفقدتهُم ما يعشنَ بسببه.