أرخى اللّيلُ سدوله على البحرِ الهادئ، فكان الظّلام دامسًا لكنّ النّجوم احتفظت بألقها بكبرياء ، فساعدت ألِكساندرا على تحديد موقعها و الاستمرارِ بتوجيه الدّفّةِ إلى مكانها الصّحيح، حتّى جاء من ينوب عنها لتأخذ قِسطًا من النّوم بعد يومٍ شاق في رحلةٍ عسى ألّا تطول ..
لحسنِ حظّها تمّ توفير مقصورة صغيرة جدًّا بالقرب من مقصورة القبطان و الأمير لها وحدها، أهذه واحدة من أفعال فريدريك؟ كانت تتسائل.. {كم أنّه يحتاط أكثر ممّا ينبغي إنّه يفسدني بدلاله هذا!} فكّرت بضيق، ولجت إلى المقطورة الّتي لا يتعدى طولها مترين و عرضها متر واحد، تشبه كفنًا للأحياء لولا وجود ما يشبه النّافذة في أعلى الحائط المقابل للباب، بينما كانت على وشكِ إغلاق الباب أجفلها صوت طرق خفيف، كيف لم تنتبه! رفعت رأسها لتجد الأمير يحدّق بها بابتسامة جعلتها تفكّر {هذا الشّخص .. إنّه ينوي أمرًا لن يعجبني} ولكنّها أخفت أفكارها و هي تقول بهدوء و أدب متحاشيةً النّظر في عينيه،
- "هل يمكنني مساعدتك بأمرٍ ما سيّدي الأمير؟"
- "لا يمكنني النّوم.. السّفينةُ تتحرّك باستمرار."
- "هل أطلب من الطّاهي أن يعدّ لك مشروبًا دافئًا؟"
- "إنّه نائم و سأشعر بالذّنب إن أيقظته لمثل هذا الأمر.."
- "الملازم ميلتون ينوب الآن ، يمكنك أن تجاوره فهو حسن الطباع و الحديث معه يبعث على الاسترخاء."
- "ولكنّه خجول و قليل الكلام، كمّا أنّه لا يجيد النّقاشات الطّويلة.."
تنهّدت ألِكس بتعب، هيَ حقًّا تريد الاسترخاء فحسب و هذا الشّخص هو سبب إرهاقها على الصّعيدين الفكري و العاطفي اليوم..
تبعته إلى مقدّمةِ السّفينة و لاحظت كونه يحمل بطّانيّة و شيء آخر لم تنتبه لماهيّته ، هبّت نسمة باردة جعلت رعشةً خفيفةً تنتابها، ثمّ فاجأها الوزن الخفيف و الإحساس الدّافئ للبطّانيّةِ على كتفيها، حاولت أن تنزعها ولكنّ الأمير قال بنبرةٍ هادئة تسمعها لأوّل مرّة
" لا تجادل."
جفلت لثانية ليس لِخوف بل لشيءٍ في داخلها لم تتمكّن من فهمه، تلاقت عيناهما قبل أن تشيح وجهها بسرعة محاولةً منع وجنتيها السّاخنتين من كشف أمرها ، و همست بتوتر فشلت في إخفائه
"شاكرة للطفكم يا سيّدي."
ابتسم ويليام بلطف ثمّ و بنفس الثّانيّة جمدت تعابيره للجدّ حين نظر إلى البعيد، تناول المنظار الّذي كان يحمله و أمعن النّظر، عضّ على شفتيه و هو يهمس
"كان إحساسي السّيء في مكانه."
تناولت ألِكساندرا المنظار، لتجد أنوارًا قادمة من بعيد ثمّ اختفت بعد ثوانٍ.
همست
- "القراصنة."
- "فلتيقظ الرِّجال على الفور."
انطلقت ألِكساندرا بسرعة بينما ويليام و الملازم ميلتون يطفئون كلّ سراجٍ قويّ اللّهب على السّفينة.
خلال دقائق كان الرّجال على ظهر السّفينة يتوسّطهم ويليام، ما يهتف به ليست عبارات المجد الزّائف ولا هيَ زخرفات الكلام كما ترى من غالبيّة ذوي السّلطة، لقد استطاع أن يجعلهم في يقظة تامّة و أن يذكّرهم بنقاط قوّتهم، كانت ألِكساندرا تفكّر {إنّه قائدٌ عظيم و سيغدو ملكًا عظيمًا، لا يمكن التّنبّؤ به، يتظاهر بالحمق و السّذاجة إلى أن يجعل الآخرين يدركون مدى سذاجتهم، رغم أنني أشعر بالهزيمةٍ نوعًا ما إلّا أنّه رائع..} لم تدرك ألِكساندرا أنّ الهراء الّذي تهذي به كان يجعلها تغرق أكثر فأكثر في مصيدةٍ ستعاني فيها أكثر من أيّ شيءٍ مضى و إن كانت تنفي ذلك.
اقتحمت الصفوف و هتفت بجدّية و نبره قد تبدو هادئة قليلًا،
- "سيّدي، هل يمكننا تفادي إراقة الدّماء و لو قليلًا؟"
- "هل هناك خطّة معيّنة تدور في خلدك ألِكس؟"
- "بكلّ تواضع يا سيّدي هناكَ فكرة حمقاء قليلًا أفكّر بها ولكن أظنّ أنّ احتماليّة الفوز بها ممكنة جدًّا!"
لاح شبح ابتسامة هادئة على شفاه ويليام و برقت عيناه بوميضٍ غريب، أمر الجنود بتجهيز العتاد تحسّبًا و اصطحب ألِكس إلى مقصورة القبطان يتناقشان بما سيكون،
- "حسنًا سيّدي كما تعلم خطّة القراصنة الّتي تتكرّر في كلّ مرّة خصوصًا عند غير المتمرّسين ذائعي الصّيت منهم، و يبدو أنّ هؤلاء من الصّنف نفسه نظرًا لإهمالهم و تأخّرهم في إخفاء أنفسهم كما ينبغي، مسارهم يكمن في الإبحار بشكل دائري حول السّفينة المُراد نشلُها ثمّ يهاجمون من الاتّجاه المعاكس للمكان الّذي كانوا فيه قبلًا".
- "إذًا؟"
- "إذًا يُمكننا أن نستفيد من ذلك! ماذا لو ..."
.
.
.
كان ديڤيد سيچ يلفّ سيجارة التّبغِ بعصبيّة واضحة و قلق لم يتمكّن من إخفائه، إنّها سفينة حربيّة! وصلته أنباء مسبقة بأنّ العسكر سيزورون جزيرته الجميلة ليعيثوا فيها فسادًا ، ولكن لم يتوقّع أن تكون السّفينةُ بهذه الضّخامة! كان يفكّر بمرارة، كيف يمكنه أن يفوز عليهم و هو بالكاد قام بحشرِ ثلاثين رجلًا على هذه السّفينةِ المهترئة إن صحّت تسميتها بذلك.. نفث نفثتين و زفر بانزعاج ؛ ليحدث ما سيحدث!
ثمّ هتف بسخط
- "بينجامين! هل الأسلحةُ معدّة؟"
- "مُعدّة يا زعيم."
- "ثومبسون! هل القنابل في المدفع؟"
- "جاهزة يا زعيم!"
- "إذًا استعدّوا يا حُثالة! فاللّيلةُ ليلتُنا!"
- قهقه الأتباع بغباء و ابتسم ديڤيد ابتسامةً صفراء، كونه مُحاط بالأغبياء نِعمة و نُقمة في آنٍ واحد!مشى نحو الدفّة ببطء و شيءٌ ما نبّهه لوجود حركةٍ غير طبيعية في الماء، أمسك شمعةً من اثنتين كانتا تنيران السفينة بعض الشيء و رماها إلى البحر في ذات المكان، ليلاحظ وجود قاربٍ فارغٍ على مقربة منهم، شحب لونه و نبّه من حوله بتفتيش السّفينة شبرًا شبرًا بحثًا عن أمرٍ غير طبيعي ، و بينما هو يقول ذلك سُمعَ صوتُ ضحكةٍ شيطانيّة من فوقهم، هناك على الصّاري كانت ألِكساندرا تقفُ و سيفها بيدها ، تبتسم ملء ثغرها بشرٍّ ظاهر و تهتف بصوتٍ عالي
" جميعكم رهنُ الاعتقال !"
اصفرّ لون ديڤيد و شيءٌ ما في داخله كان يضحك بمرارة و سخرية {ماذا كُنتَ تعتقد أيّها الوضيع؟ بالطّبع هذا ما سيحدث!} لكنّ ديڤيد تجاهل الصّوت في داخله، بل بدأ يضحك بهستيريّة وسط دهشةِ أتباعه و استنكارِ ألِكساندرا، ثمّ قال مُحاولًا كتم ضحكته بعد فواتِ الأوان
- "فليكُن! ولكن بعد أن تهزمني في مبارزة عادلة أيّها الصّعلوك!"
- "حسنًا إذًا، سنرى من يكون الصّعلوك حقًّا !"
قالت بسخرية لاذعة و هي تنزل برشاقة من الأعلى.
خلَت مقدّمةُ السّفينةِ للمبارزة، و الأتباع يقفون على الجانب مبهوريّ الأنفاس دون أيّ فائدة.
كانت ألِكساندرا تتجنّب ضرباتِه ببراعة متناهية ولم تُهاجم أبدًا، ممّا جعله يُستفزّ منها و يهاجم بقوّة أكبر، شيئًا فشيئًا لاحظت ألِكساندرا التباطؤَ الخفيف في حركته و هُنا بدأت تُهاجم و تتصدّى حتّى غلَبته بمهارة.
- "أنت تجيد بعض المسايفة بالنّسبةِ لحجمك!"
قال ديڤيد وسط أنفاسه المتعبة.
- "و أنت تجيد بعض المسايفة .. بالنّسبةِ لقرصانٍ لص!"
ابتسم ديڤيد بمرارة و تعب، كان النّزال عادلًا و هذا يكفيه.
سُمِعَ صوتُ تصفيق بطيء من مؤخّرةِ السّفينة، التفت الجميعُ ليجدوا رجلًا بشعرٍ أشقر مربوط إلى الخلف ربطةً مُنخفضة، تبدو ملابسه أغلى من السّفينةٍ بمن فيها.
- "تُبهِرُني كلّ مرّةٍ يا ألِكس!"
انحنت ألِكساندرا بوجل واضعةً يدها إلى قلبها و خافضةً رأسها باحترام شديد.
كان ديڤيد ينتقل بنظره بينهما باستغراب و حيرة، التفتت إليه ألِكساندرا بغضب و هيَ تقول بنبرةٍ تتوعّد العذاب
- "أظهر بعض الاحترام يا هذا! أنتَ في حضرةِ أميرك!"
- "لا عليكَ يا ألِكس، هؤلاء المساكين بالكاد يعرفون كيف يديرون حياتهم. "
كانت عيونُ القراصنةِ تتلألأ بينما ينظرون إلى الأمير، إنّه لا ينتمي إلى هنا!!
تمّ نقل القراصنة جميعهم مربوطي الأيدي إلى الصّواري في السّفينةِ الحربيّة، كان الجُنودُ ينوبون عن بعضهم في حراسةِ السّجناء، و أتيحَ أخيرًا لـ ألِكساندرا أن تنال قسطًا من الرّاحة فغفت من فورها بكامل بزّتها العسكرّية.
أنت تقرأ
في سبيلِ الوطن.
Aventuraثلاثةُ أخواتٍ يبدأنَ رحلتهُنّ نحوَ الاغترابِ و الانتقام، بعدَ ليلةٍ حمراءَ أفقدتهُم ما يعشنَ بسببه.