من الرائع أن تكون جاهلاً بمشاكل الحياه، من المؤكد أنى كنت لا أُفَكِّر أبداً فى نواه الخلية و لا فى تفاحة نيوتن ولا فى قط شرودنجر ولا فى كوكب المريخ، كانت تساؤلاتى محدودة من قبل دخولى من باب المدرسة، فكنت أسأل مثلاً "متى سينضج الطعام؟"-"أين كُرتى".
كانت كل تساؤلاتى لا تخرج خارج ما أُشاهد على التلفاز و تحديداً مسلسلات الرسوم المتحركة، و كانت أكبر طموحاتى هى أن أُقابل (توم و جرى) لأُسَلِّم على كلاهما، و أن ألعب مباراه كرة قدم مع (الكابتن ماجد)، أو أن أمتلك هذا البساط الذى يطير فى عنان الجو و أرى المنازل من فوق حتى أوصل إلى أبعد نجمة مُضِئة فى السماء، هذا البساط الذى أراه فى فيلم(علاء الدين).
فكان الخيال لدى أوسع من البحر، كُنت حينما أجلس فى خَلوتى أتخيل أى شئ من التحديق فى بقعة ما على الحائط، فذات مرة بدأت أتخيل نفسى رئيساً لمصر، و وصل بى الأمر أنى قد وقفت على منصة و صرت أتحدث قائلاً"شعبى الكريم، لا تقلقوا، فإنى قد عرفت مشاكلكم التى رأيتها بأُم أعيُنى، فلن يبقى بمصر فقير، ولن يبقى بها هذا الإزدحام المرورى" كنت أعتقد أنى أستطيع السيطرة على كل شئ.
لكن أفضل شئ عندى هى مراقبة أخى الذى يبدأ فى تخيل كل ما هو ملموس ثابت لا يتحرك ولا ينطق إلى أشخاص يتحدثون معه، فكانوا يتبادلون الحديث الذى كان يراه جادياً للغاية، و أنا مُختبئ خلف الحائط أراه يُخَاطِب ساعة الحائط و يسألها عن أولادها و زوجها و كان يتخيل العالم كله سيمفونية متناسقة و متناغمة مع بعضها، فيرقص بندول الساعة مصدرا صوت "تيك...توك...تيك...توك" مع وضع الأوانِ المعدنية-أواني الطعام-على وجهها و يحضر المعالق ليبدأ بضرب هذه المعالق على هذه الأوانِ معتقدا أنه إكسيليفون.
و إذا رأى شيئاً يسقط يجرى ليلتقطه، كأنما رأى رضيعاً يسقط على رأسه، و يال السعاده التى كانت تلمع على عينه!.
بعدما بلغت سِن الخمسة أعوام، وضعت قدمى على أول رقعة من العِلم، كانت هى المرحلى التى تُعرف بالـ(KG1 (Kids Garden
من الصعب على عقلى أن يتذكر ما قد درسته بتلك المرحلة، لكنى أتذكر جيدا (ميس مُنى) و هى تقول "ألف أرنب-به بطة" و أتذكر اللغة الفرنسية و الألمانية، فكانت هذه المدرسة خاصة و ذات تعليم متقدم عن بقية المدارس، كنت حافظاً للأرقام باللغة الفرنسية من واحد إلى عشرة، و أتذكر La carrot, Le Tomat و أتذكر فى الألمانية A-Auoto B-Blomen C-Cloven D-Dick E-Essin و الغريب فى الأمر أنى أتذكر بعض الأسماء من زملائى، ربما لأنى مازلت مُحتفظ بهذه الصورة الجماعية التى تضم جميع زملائى بالصف.
كانت تمر هذه الأيام كمرور الطير من فوق الشجر، و العجيب فى الأمر أنى مازلت أتذكر صوت بكاء أحد الزملاء و الذى أذكر أن إسمه مازن، هذا الطفل كان كثير البكاء لإشتياقه لأمه.
و ها أنا أسأل سؤالى هنا، لما لم أبكى مرة فى هذه الفترة مثل هذا الفتى، بل بالعكس، كنت أحب البقاء هناك، بسبب حب المعلمين لى أم من خوفى من عقاب المعلمين، لهذا كنت صامتاً صامداً ثابتاً كالحجر و أعتقد أن هذه الحالة مازالت بداخلى إلى الآن لكن بنسبة أقل بكثير.
بعد مرورى من هذه المرحلة، أصابنى داء الصفراء أو Virus A أو الكبد الوبائى A .
و كانت حالتى صعبة و قوية، أتانى هذا المرض بشدة.
و كان علاجى صعب، حيث أن على ألا أكل غير الأطعمة المسلوقة فقط، بلا زيت أو بلا أى نوع من أنواع الألبان.
و كان من الخطر أن أكل اللحوم، و من الناحية الأُخرى كنت أخذ هذه الحقنة التى كانت كابوساً لى، فكنت أصرخ و أجرى بعيداً عن هذه الحقنة التى كان يقال عنها على لسان الأطباء "لا تقلق، إنها مُجرد شكة دبوس" فكانت هذه الكلمات تَمُر من أُذن و تخرج من الأُذن الأُخرى، فيقوم فريق طبى كامل بالإمساك بى كى لا أهرب من اخذ الحقنة.
فى مرحلة KG2 لم تختلف سوى أنى تعلمت القراءة و الكتابة، حصلت فى هذه الفترة على أصدقاء جدد و بدأت أغلال خوفى من المدرسة تنحل من اطرافي.
اتخذت من جدي و جدتي قدوة كبيرة لي، لأني فهمت وقتها أنهم أهم ما لدي في الحياه بعد ابي و أمي.
تعلمت منهم مبادئ الصلاه و عرفت معني العطف على الحيوان، و أكلت عندهم جميع أصناف الخير، فمنهم أصناف كنت تقبلتها و منهم أصناف لم يقدر بدني على استيعابها.
لا أعلم كيف و لما و من أين أتت هذه الرقة التي تملأ قلبي، و الأن عرفت سببها الذى قد نبع من هذا العش الملئ بالحنان.
كثير من معارفي فهموا انني قد تربيت فى منزل أجدادي، و ها أنا الآن اصحح هذا المفهوم بقولي أن عش جدي و جدتي كان علي هذا الفرع بهذه الشجرة التي غرست في أرض من طين، فكانت الحياه، أي انني الآن أمثل حياتي بهذه الشجرة و كل فرع منها قضيت به فترة من عمري، و الفرع القريب الى قلبي هو هذا الفرع الذي نشأ عليه هذا العش اللين الرقيق، و أما هذا الفرع الذي به تلك الثمرة المتأرجحة، إنه بيتي الذي أقيم به الآن و هذه الثمرة تعبر عن الإستقرار و الأمان، حيث مصدر الطعام لن ينقطع بإذن الرحمن.صوت جرس المدرسة الجديدة يرن، و مازال صوته مستمر فى أذني الى الآن، و أقوى صوت سمعته و مازات أسمعه هو صوت طابور المدرسة الصباحي، مدرستي الإبتدائية إلى باب التخرج.
مع أول يوم دراسي لى، وضعت نفسي داخل صندوق، أي أنني عدت مجددا لهذا الصمت الذي كان يلتف حولي و يكبلني كاللص الذي سرق و يحاول الهروب.
بدأت فى الصف الأول الإبتدائي، و بدات الأيدى تصفق لنجاحي، كانت أيدي المعلمين الذين وقفوا بجانبي.
دخلت الصف الثاني ثم الثالث، و ينحدر مؤشر النجاح لدي، و تسقط الأعين من علي،و أنا أقف أبكي بلا ملل، ابكي على فشلي دراسيا و فشلي إجتماعيا.يوما يمر بعد يوم فتطوي هذه الصفحات و تنسي من الناس و لكنها تبقي تتحدث عن نفسها في ذهني، و تذكرني بأخطائي التي ارتكبتها.
و عقلي يدون هذه الكلمات والتجارب الحياتية مما جعلني أكتسب هذه الروح الباردة التي قيلت من المعلمين الذين وقفوا بجانبي انها روح رجل كبير عاقل، و أنا لا أكترث لهذا.
كل معلم يقول لي هذه الكلمات و التي هي" انت محترم- انت متفوق- انت.انت.انت" كنت أكره هذا المديح،لأني كنت أراه نفاقا من بعض منهم.
وصلت إلى المرحلة الإعدادية و عقلي قد أكتسب من العلم أطنانا، لكن الغباء كان هو القائد، فكان بيدي هذا المفتاح لهذا القفل، و لكن لما هذا الغباء، كان و مازال يراودني هذا الشعور الذي يقول لي اني مختلف، و كنت أجيب عليه قائلا:مختلف فى ماذا؟.
لكن لم أجد لهذا من جواب.ها أنا ارتدي رداء الفشل الذريع و رداء الشؤم و الخراب، رداء المرحلة الإعدادية.
و لكن، و لكن حدثت كارثة قبل عام لم أذكرها....قبل دخولى المرحلة الإعدادية بعام حدث حدث غير كثير من حياتي.

أنت تقرأ
سيادة القاضى
Adventureمن منا ليس لديه صديق عزيز على قلبه، أو قريب لا يفارقه فى حياته، أو معلم أو أو أو...،من لديه صديق عزيز فقد امتلك الأمان و السلام، إنى أتحدث عن هذا الصديق المخلص، ليس الصديق المنافق. الصديق وقت الضيق، فإن امتلكت صديقا ادعُ ربك بعدم مفارقتك إياه و أن ي...