لا أتذكر تحديداً بداية حياتى من حيث وعيي، أقصد أن أول شئ أتذكره تقريبا هو حينما كنت فى الثالثة من عُمرى أعمل مع والدى فى الحقل من باب الترفيه، حيث أننا كنا نأتى كل عام إلى الريف مع أمى و أبى و أخى الصغير الذى لا يتجاوز عمره العامان، كنا نرى هناك أقاربنا مثل جدى (الملاح) و جدتى (فريدة) و عمى الذى قرر العيش هناك(رأفت) .
كنت أنا و أخى نتعلم هناك كيف نأخذ الحليب من البقر، و كيف نُفَرِّق البيض الذى يصلح للأكل و البيض الذى سيصير صغير الدجاج.
كانت هوايتى المفضلة هناك هى مطاردة الدجاج فى الحقول و مراقبة الغروب من أعلى منزل جدى، فكنا نجلس أنا و أبى و أمى و عم ( طاهر) كان صديقاً عزيزاً للعائلة، و و أخى الذى لا يكف عن البكاء خوفاً من هذا المشهد المبهر، و كان أحيانا ما يأتى معنا عمى (رأفت) و زوجته (ياسمين).
لكن بعد الغروب كان قلبى غير مطمئن لخوفى من الذئاب، و اسطورة (السلعوا) حينما كبرت علمت أن السلعوا كذبة و الذئاب حقيقة، لم أكن أستطيع النوم بسبب عواء الذئاب.
يبدأ يومنا بصلاه الفجر فى مسجد القرية الذى كان إمامه الشيخ (ربيع) ذو الصوت الذى كان يأخذنى إلى عالم آخر، كنت أجلس و أرى والدى و عمى يصلون فى جماعة و أنا اتسائل، لماذا يصلون، لماذا يقومون بهذه الحركات الغريبة، فبدأت اقلدهم.
بعد الصلاه، يأخذنى والدى إلى المقابر حيث دفن جد والدى الشهيد (عمر باشا أبو العز) الذى استشهد فى حرب السادس من أكتوبر لعام 1973، فكان والدى يقول لى أن أُرَدِّد ورائه فكان يقول: اللهم اسكنه الفردوس الأعلى اللهم إحسبه عندك من الشهداء فى سبيلك اللهم..." و بعد ذلك كنت أركب السيارة مع والدى لنذهب إلى سوق (هريدى)، فكنا نشترى فقط القليل من المستلزمات التى لم تكن تتوفر لدينا فى الحقل مثل الزيت و السُكَّر و الشاى و أشياء أخرى لا أتذكرها.ثم نعود الى البيت، فيقول لى والدى إذهب و استمتع بيومك...فكنت أصعد إلى أعلى منزلنا لأراقب الحَمَام و هو يحوم حول برج الحَمَام و كنت أستمتع بصوت الهواء و هو يداعب الحشائش و صوت النعام الذى يرقض ليلتقط ديدان الأرض، و صوت عم (طاهر) و هو يغنى و يحرث الأرض بفأسه، و صوت البقر و الخِراف و الدجاج الذى يصيح.
بعد ذالك كنت أنتظر أولاد الجيران لنلعب سويا الغُمَّيْضّة أو كما نُسَمِّيها "خلاويص" فكنت أختبئ خلف الصخور و أسفل المصاطب و أحيانا بين الحشائش متخفياً و حينما يأتى دورى فى البحث لم يلبث دور واحد و أُمسِك بأحدهم ليأتى عليه الدور.
و ذات مرة كنت ألعب معهم و لاحظنا غياب واحد منا فأصابنا القلق و الإضطراب و فبحثنا عنه فى كل مكان و كان أهل المنطقة جميعاً كانوا يبحثون معنا مثل فريق الشرطة حتى عثرنا عليه تائها فى مزرعة إحدى القرى المجاورة، فحينما سألناه كيف و ما الذى أتى به إلى هنا، أجاب قائلاً أنه وجد السلعوا تجرى خلفه فصار يجرى دون أن ينتبه لطريقه.
و حينما استطاع حاول العودة لكنه زوَّد الطين بلاً و ضل طريقة.
و منذ هذا اليوم و صرنا نلعب جميع ألعابنا فى الحظيرة القديمة التى صار يوضع فيها بعض الخرداوات و الأشياء القديمة التى لا حاجة لها.
و لكنى كنت أشعر بالضجر حينما يمر أول إسبوع فى المزرعة و كان هناك شئ بداخلى يشدنى إلى العودة إلى القاهرة مثل الحنين الى الوطن.
كانت حياه بسيطة تغمرها السعادة و المرح، مازلت أذكر لعبة الحجلة، و حينما كبرت قليلاً تعلمت صناعة الأوانى الفخارية بالطمى و نقش ما يحلو لى على هذه الأوانِ، و كنت ألعب الحُكشةُ و هى كانت تشبه الهوكى.
و أيام العيد مثل عيد الفطرو عيد الأضحى كنت أرى والدى و هو يلعب مع عمى بالعصى الخشبية و يرقصون على صوت الطبول و الدُفوف و يغنون و كان يسعدنى دائماً أن أرى الحصان و هو يرقص مع سماعه للموسيقى، و كنا نأتى بالحطب و نشعل به ناراً.
ولكن كما يُقال"ليت الشباب يعود يوما" صرت الآن أُكرر "ليت الطفولة تعود يوماً" فقد مات جدى (الملاح) و منذ ذالك اليوم لم نأتِ الى الحقل مجدداً فقد كان جدى مصدر السلام و مصدر الوئام و مصدر للوِصال و الإتصال فكان يُضرب به المثل فى صلة الرحم.
و صارت جدتى فريدة تسكن معنا فى القاهرة، تروى لنا أروع الحكايات و القصص، لن أنسى مسحة يدها على شعر رأسى و قولها دائما"ربنا يحفظك يا قلبى" كنت أسمع هذه الكلمات و أشعر بماء مُنعِش قد غطى جسدى بالكامل، و أتى اليوم الذى توفيت فيه مما سبب الأحزان على الجميع، كما قيل لى أنها توفيت أثناء صلاتها للعصر و قيل لى أيضاً أن كل من عَرٍفوا بوفاتها بكوا على فراقها.
و قال لى والدى: ستظل هذه السيدة خالدة فى الدنيا.
فلم استطع أن أفهم كيف يقول هذا، و هى ماتت؟
فحينما سألت والدى قال لى: إن كنت تريد أن تُخَلَّد مِثلها فأطع ربك و كن مثلاً أعلى لغيرك و اتخذ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مثلا أعلى لك، و قال لى أيضاً : ضع بصمتك فى الدنيا و سيتذكرك اللاحقون.
حينما كوَّنت أصدقاء كان من الصعب علىَّ أن أتأقلم معهم، لأنى لم أكن أفهم قصدهم دائماً فكان تفكير الكثير منهم سئ و بشع، بعيداً عن الألفاظ البذيئة التى لم أكن أُطيق سماع حرف منها، فكانوا يمزحون مثلا بالدين و يستهزئون بغيرهم حتى وصل بهم الأمر إلى التبجح على من أكبر منهم سناً، فكنت حينما أركب معهم الحافلة الخاصة بالمدرسة، كنت أراهم يسخرون من هذا و ذاك و يلقون القمامة على الأرض و الذى كان يقطع قلبى أن أراهم يلعبون بالطعام، فهناك من كان يقذفه على الآخر و هناك من كان يُلقيها فى المخلفات دون أن تكون غير صالحة للأكل.
و الذى كان يجرحنى و يجعل القلب يدمع ألما حينما أرى الفتية و الفتيات يقذفون الحصى على الحيوانات الضالة مثل القطط و الكلاب، و هناك من كان يتخذ صيد الكِلاب هواية، فكان الولد منهم معه رِباط حِذاء طويل و يُمسك بالكلب، فيلف حوله هذا الرباط حتى يكاد أن يخنقه، و لكنى كنت أحاول أن أَنهى عن المُنْكَر لكنهم يقولون أن الله لن يحاسبنى على ما يفعله بل سيحاسبه و هناك من يقول لى: إحتفظ بهذه النصائح لذاتك.
أَمِنَ الحق أن يُكَرَّم الخائن و أن يُلعَن الكريم؟
أهذا عدل؟
فرأيت أن الناس جميعاً يحبون الإنصات إلى الإذاعة و التليفزيون و الفنانين و الإعلاميين، فلهاذا جعلت حلمى أن أدخل كُليَّة الإعلام لأكون مُذِيعاً مثلهم.
![](https://img.wattpad.com/cover/178371814-288-k457009.jpg)
أنت تقرأ
سيادة القاضى
Pertualanganمن منا ليس لديه صديق عزيز على قلبه، أو قريب لا يفارقه فى حياته، أو معلم أو أو أو...،من لديه صديق عزيز فقد امتلك الأمان و السلام، إنى أتحدث عن هذا الصديق المخلص، ليس الصديق المنافق. الصديق وقت الضيق، فإن امتلكت صديقا ادعُ ربك بعدم مفارقتك إياه و أن ي...