لقد وقعت في حب هذا المكان حقا . فالسكون التام الذي يحيط بي يناسبني للغاية , فالضوضاء هي عدوتي اللدودة . رغم وجودي في تجويف عملاق أسفل أرض دونارما بآلاف الأمتار إلا أنني أثناء سيري في طريقي إلى هنا قابلت بحيرة عظيمة ذات مياه متلألأة من فرط النقاء . يطفو على سطحها عدد لا يُحصى من الأوراق الزرقاء الكبيرة التي تشبه القلوب الزرقاء . لاحظت كذلك عدد كبير من النباتات مختلفة الأشكال و الأحجام و الألوان و إن ما شد إنتباهي للغاية مجموعة من الزهور المرقودية المتجمعة عن كثب في أكثر من بقعة يطفو بعضها على البحيرة في حين يلهو الآخر أسفلها . كم أعشق الزهور المرقودية .
ها أنا ذا أجلس فوق مقعد خشبي ذو قمة مخروطية الشكل تمتد لأكثر من مترين للأعلى . يحيط بي مجموعة من المناضيد الخشبية مختلفة الأحجام و إن اشتملت جميعها على كمية من الأوراق المكدسة بعناية فوقها . أعترف أن النفيرات و الرقعات قد فاجئتني و خالفت توقعاتي , فما كنت أتخيله عن عالم الكواديري أنه مكان مظلم قميت , لكن الحقيقة أن الكواديري مكان رائع للغاية . فما يحيط بي من أرض مليئة بنباتات متعددة و على مرمى البصر أكاد أرى سراب البحيرة التي رأيتها في طريقي و مجموعات المرقوديات الرائعة يجعل المكان أبعد ما يكون عن تخميناتي الخاطئة . أما سقف الرقعة التي أجلس الآن في أحد جنباتها و الذي يرتفع لمسافة شاهقة فوقي ممتلئ بأضواء لامعة تبدو من مكاني البعيد هذا كالنجوم المتلألأة في سماء الكون . أعتقد أنها مجموعة ضخمة من الأحجار الثمينة , أو ربما هي أدوات صنعها أجدادي حين أسسوا الكواديري . أيا ما كان فإن لها وقع طيب في نفسي .
أمسكت بمجموعة من الأوراق التي أحضرها أحد الإيسوريين الموكلين لخدمتي في الكواديري , فأمامي الآن مجموعة كبيرة من السجلات التي تتحدث عن كل شيء يخص إمبراطورية آيارو . لازال الإيسوري الذي يُدعى ليبان في طريقه لإحضار ما تبقى من السجلات الخاصة بهم , أو هذا ما أتمناه . فالكم العظيم من السجلات أمامي يجعلني أشعر بالتردد . كيف سأنتهي من قراءة هذا كله ؟ أتمنى أن تكون السجلات ممتعة حتى لا أشعر بالملل بسرعة .
في الحقيقة كان إختياري الأول هو إمبراطورية دوات , فذاك الجنس الهمجي العاشق للتخريب شكل لي فضول كبير خاصة أن من المعتاد ألا تستمر أي حضارة مبنية على العنف و سفك الدماء طويلا . فدوات تعتبر إستثناءا صارخا لما نعرفه عن الكون في دونارما . كما عرفت من إيسور فالدين أنني لست الوحيد الذي يفكر هكذا , فكما أخبرني أن جميع من انضم إلى طائفة إيسور دوما ما يبدئون رحلتهم المعرفية بالإضطلاع على سجلات دوات . بعد تفكير مطول بيني و بين نفسي قررت أن أرجئ دوات للمستقبل القريب , و أن أبدأ أولى خطواتي كإيسور دونارما بقراءة سجلات آيارو . فإن كان دوات يمثل جانب الشر في كوننا , فإن آيارو تمثل جانب الخير فيه , فكيف أسمح للشر أن يكون أولى خطواتي كإيسور ؟
رغم فضولي لمعرفة كل ما يمت لدوات بصلة , لكن الحقيقة كان لحضارة أخرى فضول أكثر عنفوانا منها . لكن رفض إيسور فالدين أن أبدأ بها . فالحضارة الفرعونية تُعتبر حضارة ذات عمر قصير , كذلك السجلات المتوفرة عنها ليست بكافية للحكم عليها بشكل حيادي . إضافة إلى أن الفراعنة ارتبطوا في آخر عهدهم بكوكب همداريا الغامض . حتى أضطلع على سجلات كوكب همداريا علي أن أنتهي من سجلات دوات و آيارو و همداريا قبل الخوض فيها . هذا الرد عمق كثيرا من فضولي نحو الفراعنة حتى صار أشبه بالإدمان . علي أن أختلس النظر كل فترة إلى أي سجلات قد أصل إليها مرتبطة بالفراعنة فربما يهدأ قلبي قليلا .
من المفترض أن أنتظر حتى ينتهي ليبان الإيسوري من إحضار كل السجلات الخاصة بآيارو ثم بعدها سيقوم بترتيبها على حسب التاريخ من الأقدم للأحدث ثم بعدها أشرع في القراءة , لكن ألا يُعد ذلك مملا ؟ لماذا لا أنتقي السجلات بشكل عشوائي ؟ ألا يُعد ذلك أكثر إمتاعا ؟
نظرت في كوم السجلات المتراصة بلا ترتيب حولي , ثم انتقيت أحدا منها دون تركيز . كل سجل يتكون من غلاف مصنوع من مادة السوفيميد , و هي مادة يستخرجها جنس الفواغ التابع لإمبراطورية صغيرة تُدعى بإمبراطورية ألمون . لا أعرف الطريقة التي يستخدمها الفواغيون في تصنيع تلك المادة لكن المميز فيها خفة وزنها و قوة تحملها خاصة ضد عوامل الزمن . فحتى بعد مرور آلاف السنوات لازالت أقدم السجلات تبدو كالجديدة . كل غلاف سوفيميدي يشتمل على كتابات بلون براق لتساعد في معرفة ما يحتويه السجل من معلومات . اللون في كواديري مهم جدا لأنه يُعتبر تقييما لمدى أهمية المعلومات الموجودة فيه . فاللون الفيروزي يدل على أنها معلومات عادية . أما القرمزي فيدل على أنها مهمة . أما الذهبية فتدل على أنها في قمة السرية . كذلك يشتمل الغلاف الخارجي على علامات تشير إلى مدى ثقتنا في هذه المعلومات . فعلامة رأس حيوان البينو تدل على أننا لسنا على ثقة تامة بالمعلومات و أن بها مجالا للشك . أما علامة رأس الدوتين فتدل على ثقتنا التامة بالمعلومات . أما علامة رأس الفيرال فتدل على أننا لا نملك بعد من المصادر التي تجعلنا قادرين على تقييم المعلومات , لذلك فهي تُعتبر غامضة و لا يمكن إعتبارها مثبتة أو أن نشكك فيها . عادة ما نضع المعلومات التي تصلنا عبر الإشاعات في الكون الفسيح في تلك الفئة .
أما السجلات أنفسها فمصنوعة من ورق التيسبين , و هو ورق مستخرج من أحد الكواكب التي يسيطر عليها الآيارويين . يمتاز ورق التيسبين بنعومته الشديدة إضافة إلى لمعان ورقه . كذلك يمتاز بمتانة قوية حيث لا يمكن قطعه بسهولة . ما يعيبه هو عدم إحتماله لعوالم الزمن ولا تقلبات الطقس , لذلك فالغلاف السوفيميدي يُعتبر مثاليا للحفاظ على جودته . كذلك تُعتبر الرقعات داخل الكواديري مكانا مثاليا لحفظه حيث تختفي تماما تقلبات الطقس من هنا , فالجو دوما هاديء لطيف ذو درجة حرارة ثابتة مناسبة .
أمسكت بالسجل و قرأت ما هو مكتوب على غلافه باللون القرمزي : سيفرين . رائع , فأول ما أمسكت به هو سجل مهم , بالتأكيد يحتوي على معلومات في قمة الأهمية . رأيت علامة رأس الدوتين بارزة في الجانب العلوي الأيسر من الغلاف لأشعر بإثارة أكبر , إنه سجل مليء بالمعلومات الموثوقة إذن . ما جعلني أفكر و أنا أفتح السجل قبل قرائته أنني لم أسمع من قبل على هذا الاسم . آيارو تُعتبر حليفا قويا لدونارما , فالعلاقة بين شعبنا و شعوب أيارو مترسخة منذ القدم . لكن الغريب أنني لا أتذكر هذا الاسم قط . إن لم أكن أعرفه فهذا يعني أنني على وشك قراءة شيء مثير لاريب . جلست في مقعدي بأريحية و أمسكت بأولى الصفحات التيبسينية ذات اللون السكري الخافت و أخذت أقرأ الكلمات على الضوء الهاديء الذي يمدني به عمود من صخر الزادل اللامع و الموضوع في منتصف الرقعة التي أنا بها .
أنت تقرأ
AvaRo آفارو
Fantasiرواية خيالية تدور احداثها في كواكب و حضارات كثيرة في الكون العظيم يارب تعجبكم ""اسمي آفارو , و هو ما يعني البصير ذو الحكمة الواسعة , قدمت من كوكب يُدعى " دونارما " و هو كوكب يعيش عليه مجموعة من الأجناس المتنوعة في تناغم و إتحاد . جئت من جنس يُعرف ب...