#مارد_من_الإنس
#الجزء_الثاني
[حسام عبد المقصود ]
يوم عمل طويل ولكن ما الجديد هذه حياتي دوناً عن أبناء عمومتي. أنا سعد اليتيم-1 عفواً حسام اليتيم رغم أن أبي على قيد الحياة ولكنني للحق يتيم إنما لناحية الأم وكما تقول جدتي متحسرة على أحوالي ( إللي بلا أم حاله يُغْم ) غَمْ سيطر على حياتي منذ سقوط الإسم الغريب على مسامعنا بالبيت, أبي تزوج أخرى تدعى فدوى ومن حينها تبدلت أحوال أمي الحنون لما إشتعلت الغيرة في قلبها حد الجنون. تلطخ وجهها بالألوان, تكشّفت ملابسها, إمتنعت تماماً عن النوم في غرفتي حتى في أيام الثلاث التى كان يتغيب بهم أبي من كل أسبوع عن المنزل . لم تعد تستمع لي أو لأخي وكل ما كانت تفعله هو التزين والتسوق ومجالس النصح والإرشاد من أمها والتي حثتها أن تحذوا حذو الزوجة الثانية وتنجب مزيداً من الأولاد لتكون لها الغلبة بقلب زوجها. وفجأة عراك شديد دار بينها بين أبي أدى بالنهاية لإنتفاخها حتى الموت, لم أكن أعلم فعلياً سبب موت أمي إنتفاخاً حتى علمت مؤخراً من مجالس النسوة في قصر دمياط أن أمي ماتت أثناء ولادتها لأخينا الثالث والسبب فدوى, فدوى من قتلت أمي بمساعدة أبي وحينها فضلت الإبتعاد بأخي عن الأب وزوجته ذات الإسم الغريب لئلا تقتلنا كما قتلت أمنا وكان هذا أول أسوء قرار إتخذته بحياتي ثم توالت القرارات الغير موفقة.
عودة للعمل, وصلت شحنة كبيرة من الأخشاب فطلبني جدي إسماً لأتسلمها من ميناء بورسعيد للعودة بها لدمياط . مستيقظ منذ فجر أمس أنهي معاملات هنا وهناك لتخرج الشحنة بسلام وبلا تأخر, متوقف على هذه الشحنة العديد من الطلبيات المتأخرة حتى قبل الإتفاق على إستيرادها من الخارج فجدي طامع كبير يبرم الإتفاقات قبل غيره ليظل سوق الأخشاب تحت قبضته . وصلتُ لدمياط الثالثة عصراً منها للمغلق الغربي لإنزال أول لوري, ومن ثم تركتُ العمال لإنزال الشحنة وتهالكت على كرسي مكتبي المتهالك أكثر مني ثم فتحت الحاسوب وأرسلت لعمي الأكبر بريد إلكتروني يفيد بوصول الشحنة لدمياط وجاري تشوينها فأجابني على الفور ( عفارم عليك ما تروّحش قبل ما توشنها )
تباً؛ تسكين أربع لوريات يحتاج ليوم أخر بلا نوم أو سجائر فالعم سوف يكون هنا بعد دقائق ليرى الشحنة بأم عيناه ولا يصح التدخين أمامه . قبل أن يقبل علي عمي أقبل علي أبي وقال بلا مقدمات:
- ياللا يا حسام مسافرين
- ليه ؟
- من غير ليه .. شوف أخوك فين ولموا هدومكوا
- انا لسه عندي شغل في حمولتين غير اللى أدامي داخلين المغلق
أمسكني بقوة من تلابيبي وقال:
- سمعت الأمر نفذه, مش هعيده تاني
لم يُعيد الأمر أو تركني لتنفيذه فقد سحبني أبي من ذراعي وألقى به داخل سيارته وإتجهنا للقصر. لما دخلنا القصر سارع أبي لجدي الجالس ببهو القصر يدخن نارجيلته على طقم الصالون المذهب وينظر لولده وولد ولده بإذراء رغم أن الجد علم أن حمولة الأخشاب وارد الخارج قيد التشوين بالمخازن ووجب غبطة الفرح إحتفالاً بذلك الفوز العظيم وليست تلك النظرات المجحفة.
تقدم أبي من الجد وإنحنى ليقبل يده لكن نفض جدي يده عن فم ولده الأصغر المحبب إلى قلبه رغم شروده عن العائلة لصاحبة الإسم الغريب وليس ذلك فحسب فقد نكز الجد أبي في كتفه بقوة بالغة للخلف حتى كاد أن أيهوى أبي أرضاً ثم صاح به :
- إيه اللي جابك يا إبن أمك, كنت فاكرني هرمي لحمي في الشارع وجاى تلمه ؟!
- ما عاذ الله أظن في حضرتك كده وبعدين ما هنا فتنت زي عوايدها وقالتلك على اللي فيها .. انا كنت خايف عليكوا أنتوا الإتنين وقولت لما تهدى حضرتك أفهمك و ....
صاح جدي بأبي مقاطعاً تبريراته :
- في ستين داهيه إنت وهما, وهى
ثم قام الجد بعصبية ينفض رماد فحم نارجيلته عن جلبابه ورحل عن بهو القصر بل وترك القصر بأكمله وموعد الغداء العائلي وشيك. من تلحقهم الستون داهية مع أبي نحن أي أنا وأخي, أما هي يقصد بها الجدة فقد سافرت للقاهرة ومكثت ببيت أبي ولم تعد حتى بعدما تنازل جدي وذهب ليسترضيها فقد علمت بزواجه من أخرى وكان ردها على ذلك مروع . قامت جدتي بنقل كامل ثروتها أي ثروة العائلة بأكملها لهنا أختي الصغيرة وكما تعلمون هنا لا غالب لها ولا تُخرج شيء دون إرادتها رغم إنها كانت حينها في السابعة من عمرها إنما الجميع يخشوا قواها التخاطرية الخارقة.
- انت لسه واقف ما تعملك هِمّه
صاح بها أبي فور خروج الجد فصعدت لغرفتي لأنفذ قرار الرحيل , وجدت أخي يلملم ملابسه بالفعل وكل متعلقاته, سعيد بالعودة للمدنية وكأنه يتذكرها. لما غادرنا القاهرة كنت بالثانية عشر وآسر بالعاشرة, وكنا تركنا من ورائنا جدنا من ناحية الأم بعزلته وشيخوته التى تأججت فجأة فور موت جدتنا. لم يأتي بحسباننا يوماً ما قد يكون أسوء من موت أم غير أم مكلومة بموت إبنتها, أخذتنا الجدة عنوة من كنف أبي, أذكر جيداً عراك كبير دار فور وفاة أمي لما أراد أبي إصطحابنا للعيش مع زوجته الثانية, إلى أن حسم الجدال جدي عبد المقصود لجدتي من ناحية الأم خوفاً على مستقبل أبي من بطش جدي الذي كان حينها ذو مركز قوي في سلاح الطيران. خرج أبي من بيت جدي مكسوراً إنما داوم على زيارتنا أسبوعياً تحت رقابة الجدة المشددة التى لما تراها تحسبها حقاً تعمل على راحة أحفادها ولكن حقيقةً صبت غضبها على كل من تسبب بموت إبنتها وأنا وأخي ما تبقى أمامها من جلال عبد المقصود.
أسبوع واحد فقط تلمست به الحنان والرعاية منها ثم إنقلبت أحوالها وتركتنا لحالنا, لم تهتم بمذاكرتنا أو حتى إطعامنا, أنا إبن الثانية عشر كنت أعد الطعام لأخي الأصغر ونجلس سوياً لنتناول أسوء ما تذوقناه إنما نأكله جوعاً . تدهورت أحوال أسر الدراسية ولم تبالي الجدة أو الجد, بغض آسر المذاكرة والبيت وأصبح الشارع ورفقاء السوء ملاذه حتى جائت عناية القدر وأول الغيث كان موت جدتي وحينها طلب جدي من ناحية أمي من جدي الأخر الإهتمام بنا فلم يعد له طاقة على تربيتنا وكأنه إهتم يوماً .
ذهبنا للعيش بدمياط وحاوطنا الإهتمام لبعض الوقت حيث حرصت جدتي علينا على الدوام, لم تشعرنا بالتيتم من ناحية الأب أو الأم كانت ولازالت إلى جانبنا دائماً أو إلا قليلاً فقاهرين مثلي ومثل أخي لابد أن يشتد عودهما عن طريق العمل بورش العائلة. نزلت برفقة أخي للعمل أولا بورش النجارة التابعة لجدي لأتشرب صنعة أجدادي ولما ترقيت ساعدت عمي الأكبر بإعداد الصفقات. عمي الأكبر لديه من الأولاد فقط خمس ولكن جميعهم منشغلين وكأني وأخي المتفرغين, إعتدنا على معيشة دمياط الخشنة فأي شيء أفضل من رفقة عجوزين خرفين.
لدي أخت, لم أعتاد على الفكرة يوماً ولكنها لحوحة بطريقة مزعجة أحياناً, فبكل زيارة لها لدمياط تذهب إلي أينما كنت بالحديقة أو بغرفتي, تأتي مبتسمة محملة بهدية ورسوم تشبهني من رسمها, كذلك تهدي آسر هدية ولكن بلا رسوم له لأنه يصيح بها على الدوام .
تقف الان في بلكون الفيلا الغير مكتملة الإنشاء تلوح لي مرحبة ثم إختفت. صعدتُ الدرج يرافقني التعجب فلم أتوقع أن غضبة الجد على أبي ضهورت أحواله إلى هذه الدرجة المذرية ويسكن مبنى غير مكتمل الإنشاء وبالصحراء ومن حوله العديد من الفيلات والقصور .
- سلميِ على حسام وآسر يا هنا
قاطعت تفحصي للبيت الجديد لما ظهرت من عدم بعيونها السعادة, صافحتني منفرد ولم تترك قبضتي فقد سحبتني من يدي بينما تقول :
- تعالى أوريك هنلعب فين
تركت نفسي مسحوباً منها حتى غرفة بها سرير واحد كبير وخزانة صغيرة للملابس وليس بها حاسب, لابد إنها غرفتي إنما فيما بعد علمت إنها غرفتنا مما جعل أخي يصيح بعصبية :
- وأنا اللي إفتكرت هنطلع لفوق أتارينا نزلنا لتحت, الحاجّه هناوه عايشه في العشه إزاى ؟!
كيف لا أعلم حقاً, فجدتي نيقة للغاية لا تقبل بالحد المتوسط بأى شيء ناهيك عن التدني, فقد كانت سلواها وتسليتها بالحياة التسلط على الخادمات في قصرها وإعادة هيكلته سنوياً بأخر خطوط الموضة التي تخرجها معارض الهنا. بدأ آسر بالإستيطان وأخرج ملابسه من حقيبته للخزانة أما أنا إكتفيت بالإستلقاء مستسلماً للألم الذي تفشى بعظامي من قسوة ما لاقيته اليوم من إرهاق حتى ضحكات صغيرة أعادتني لليقظة. نظرت ناحية الباب وجدت هنا على عتبته ممسكة بإسكتيش كبير للرسم, إعتدلت للباسمة وقلت:
- تعالي يا هنا
إقتربت مني فتناول منها الإسكتش وطالعته وحينها وجدت رسم يشبني للغاية ولكن هذه المرة ليس وجه فقط فقد كان وجه وجسد مكسي ببدلة الطيارين العسكريين وأقف بجانب طائرة f4 مما جعلني أقول مشدوهاً لحلم ظننت إنه رادوني وحيداً :
- إنت عفريته, عايزه تتطلعي رسامة ؟
- لا مهندسة زى كريم, بس ما تقولش لبابي
- ماشي, عارفه لما أدخل الكليه هركب طيارة زى اللي رسماها وهجبلك أي حاجه تطلبيها, قولي بقه عايزه إيه ؟
غابت عنها إبتسامتها التى لم تكن تفارقها وقالت بحزن ليس من شيمها:
- عايزه مامي
- مامي في الشغل ؟
بكت الصغيرة بلا أسباب وقال متعلثمة:
- بابا ضضضضربها, وخاااافت ومشيت, وسسسابنتي, بابي كل يوم بيشكني عشان شافني بكلم كريم
إقترب أخي لما سمع رواية الصغيرة المريبة وقال:
- انت (ملبوسة )يا بت ولا إيه, إنت بتقولي إيه ؟ وأمك دي فين ؟ (بمعنى يسكنها الجان)
أوقفت صياح أخي على الصغيرة لما قلت :
- أسكت ما تخوفهاش
ثم مسحت دموع الصغيرة بأناملي عن وجهها الملائكي وقلت:
- بطلي عياط يا هنا, أنا هجيبلك ماما ومش هخلي أي حد يشكك بالإبرة
قطع علينا الجلسة الأخوية الأولى صياح أبي الغاضب بإسم الصغيرة فتزايدت حدة بكائها حتى إنها إرتجفت بين يدي ولم أفلح بتهدئتها. أقبل علينا أبينا ولما رأى حال الصغيرة الحزين صاح بنا:
- حد منكوا زعلها ؟
قال آسر غير مبالياً:
- أبداً هى اللي هبلة ولا ملبوسة, عيطت لوحدها
إرتسم على ملامح أبي الإستياء من مصطلحات آسر الحادة إنما لم يباشر بالتوبيخ كعادته فقط حمل الصغيرة على كتفه وخرج بها من الغرفة وتركتنا بالحيرة. أين زوجته ؟ فقد تأخر الوقت على أي عمل تزاوله إنها العاشرة مسائاً ومن كريم هذا؟ تشارك أخي معي القلق وقال:
- شكله طلقها زي ما بيقولوا في دمياط وجايبنا نخدم الملبوسة
نظرتُ لأخي مستنكراً وقلتُ بمرح:
- خليك على مستوى الحدث, إحنا في التجمع الخامس, أختك في مدارس بريطاني بتكلم تلات لغات وانت لسه بتكلم دمياطي
تزايد صراخ الصغيرة والان تهتف بكراهيتها لأبيها وهناوة؛ جدتي فقد أسميت أختي تيمناً بها. خرجتُ من الغرفة باحثاً عن مصدر الصراخ حتى وجدته, ثلاثتهم بغرفة الصغيرة الوردية, الجدة حددت إقامة الصغيرة على فخذها, محتضناها بواسطة ذراعيها بشدة حتى لا تنفلت وتهرب من أبي الذي يحاول حقنها بالأنسلولين. لما رأتني دفعت عنها جدتها وسارعت إلي, ووقفت من ورائي كي تحتمي به كما وعدتها وحينها سألت أبي:
- هو في إيه ؟
- متعبة من ساعة ما جينا البيت بحاول أديها الحقنة مش عارف
نظرت للصغيرة بآسى وقلت مشدوهاً:
- عندها سكر ؟!
- أيوه, تعالي يا هنا
لم تتحرك بل وأمسكت بساقي بقوة فقلت:
- أنا هديها الحقنة
- هتعرف ؟
أكدت جدتي لأبي مهارتي بمرحها عند المصائب:
- كان بيدي لعبد المقصود يارتها خيبت (المقصود ياليته بمرة قتله وهو يناول جده الحقن )
تقدم مني أبي ليناولني الحقن ثم خرج يحوقل ولكني ضحكت بشدة فمازالت جدتي تستطيع إطلاق النكات رغم ما مررت به من أهوال أرسلتها بالنهاية للسكن بخرابة كتلك.
تبعت الجدة أبي للخارج وحينها سارعت الصغيرة لغلق الباب من خلفهما ثم عادت إلي تقول بسعادة :
- هديك هدية حلوه أوووي
تبدوا هبلة بالفعل ما سر أوووي تلك, تقولها بعصبية قابضة على فكيها بعنف. تركتني وغاصت أسفل سريرها ثم خرجت لي بقالب كبير من الشيكولاتة ناولته لي على سبيل المكافأة علي موقفي الأخير فضحكت وقلت:
- طب يا ستي شكراً
شاركتها الجلسة على سريرها الصغير وقلت:
- بتعرفي تلعبي كوره ؟
- أه
- تلعبي معايا ؟
- أوكيه
- عايزه تغلبيني ؟
- اه
- يبقى لازم تاخدي الحقنة عشان تبقي قوية وتغلبيني
- extrem dumm (غبي للغاية باللغة الألمانية)
لم تأتي كلمة واحدة مما قالتها الصغيرة بأخر كورس مكثف درسته لتعلم الإنجليزية للتحضر للعام الأول في الكلية الجوية فأيقنت إنها تتحدث الألمانية, ولابد إنها تسبني.
- بتشتمي صح ؟
لم تجيبني فإردفت:
- إيه رأيك تعلميني ألماني وأنا أعلمِك دمياطي ؟
قامت من جانبي إلى مكتبها الصغير وجلست من خلفه ترسم في سكون فإتجهت لها وقلت:
- أنا الحقنة بتاعتي مش بتشك, جربي
لم تجيبني مرة أخرى فأردفت مشيراً لقالب الحلوى الكبير :
- هديكي الهديه وهشتريلك غيرها كمان
- I am allergic to almonds ( لدي حساسية من البندق)
حمدلله الإنجليزية أخيراً, كل ما فهمته إنها لديها حساسية مما لم أفهم. نظرت لقالب الحلوى الذي بيدي وجدت قد كتب عليه أنه يحتوى على الكلمة الأخيرة التي قالتها؛ البندق لذلك أهدتني طفلة قالب من الشيكولاته لأنها ببساطة لا تستطيع أكلها فقلت ياساً من إقناع من بذكائه:
- أخر كلام هديكي حقنة ما بتشكش وفي المقابل هننزل نلعب كورة في الجنينة وأخدك أجيبلك أي شيكولاتة تنقيها
إجتذبها العرض بعض الشيء فقد رفعت ناظريها إلي بينما تقول:
- بابي مش بينزلني الجنينة
مضى هذا الزمن مع أخيها الأكبر تطلب تطاع كسائر الأميرات. إبتسمت الصغيرة للولي الجديد بسعادة فطلبت منها أن تصطحبني للمطبخ, وحينها قامت على الفور وسحبتني من غرفتها إلى المطبخ بينما تستعرض كل ركن بالبيت على سبيل التوضيح للضيف الجديد .
بنهاية الجولة السياحية وصلنا للمطبخ وحينها فتحتُ الثلاجة وأخرجت منها كيس من الخضروات المجمدة يبدوا عليه القدم فقد ذهبت معالمه الدالة على نوعه كذلك متجمد كصخرة ثم توجهت للصغيرة الجالسة على أحد كراس طاولة المطبخ المهمل المليئ بالأطباق المتسخة وسألتها:
- بتاخدي الحقنة فين ؟
رفعت فستانها حتى أفخاذها وأشارت لي على موضع الحقن المخبط بالكدمات الحمراء إلى البنفسجية, وذلك ناتج عن إعاقة حركاتها بالقوة الجبرية حتى تنغز بالحقن يبدوا إنها مريضة حديثة العهد و لم تولد بتلك الوصمة. أرخيت فستانها على أفخاذها وقلت :
- ممكن تأخديها في كتفك وبطنك التنويع كويس, عشان, أحسن يعني
لم تكن لتفهم المغزي من التنوع بأي حال فصمتُ حتى ضحكات بالغة صدرت عن أبي فقد كان يرقبنا فهو يغار على الصغيرة من كل رجل على ظهر الأرض. دلف أبي للمطبخ وجلس بجانب الصغيرة في إنتظار طريقة حسام المبتكرة في الحقن كما رددت الصغيرة حتى قبل التجربة . وضعتُ الكيس المتجمد على كتف الصغيرة فضحكت, وظلت تضحك لدقيقة كاملة لأن كيس المجمدات يدغدغها كما رددت إنما هذا هو المطلوب الضحك حتى الخدر . تخدر كتف الصغيرة من التجمد وحينها حقنتها وعيونها المتعجبة على الحقن الذي لا يؤلمها كما إعتادت.
شاركها التعجب أبي حيث قال:
- مش فاهم إزاى ما جتش في دماغي, جدع يا حسام عقلك حاضر هتبقى طيار كويس, هنا اللي إتنبئتلك حتى قبل ما أعرف النتيجة
إنتهيت من حقن الصغيرة وأعدتُ الأنسولين للثلاجة بينما أقول :
- دي حاجه بسيطة عرفتها من الدكتور بتاع جدي
عدت إليهما وشاركتهما طاولة المطبخ وأردفت :
- الحقن الصغيرة قِدمت طلع قلم بدون ألم من أكتر من سنة, إشتريه أحسن
تخللت أصابع أبي شعر الصغيرة المبعثر وقال بإبتسامة إنكسار لإخفاء ضيق إختاره بمحض إرادته لما فضل الإغتراب للقاهرة مع الطبيبة:
- إن شاء الله, أول الشهر
- أنا معايا فلوس هجيبه لهنا هدية
- انا معايا يا إبني, بس إحنا ماشيين على ميزانية
صوت جدتي الغاضب أتى من الخارج يصيح:
- يا حسام, إنزل هات القلم لهنا دلوقتي
وتضخمت الجلسة العائلية لما خرجنا جميعا للجدة بوتيرة بطيئة أو هادئة فيما عدا هنا فقد هرولت من بيننا حتى قفزت على حِجر الجدة مباشرة ثم باشرت بجذب مصاغ جدتي الوفير بمرح لم تكن تقبله الجدة من أقرب أحفادها وليست إبنة الطبيبة من سرقت ولدها الأصغر منها وتحفظت عليه القاهرة بعيداً عن عائلته. وبين محاولات الجدة لإبعادها قالت لأبي:
- انا شفت القلم في الصيدلية بتاعت مرات صاحبك وأنا بجيب السم
- سم إيه ؟
سألت أبي بريبة فنظر أبي لجدتي بحدة وقال متداركا :
- سم فار, كان عندنا فار
إثر تصريح أبي المكذب لقتل الجد على يد الجدة ضحكت هنا والجدة بشدة ولما إنتهيا من الهمس والضحكات طلبت الجدة من هنا أن تجلب لها حقيبتها الجلدية المباركة التى تحوى الآف الجنيهات دائماً, بالله كلما رأيتها شعرت براحة بالغة لِما يسقط بين بيدي من رخاء بعد حلولها . سحبت الجدة منها أربعة ورقات من فئة المائة جنيه وناولتني إياهم لشراء الازم للصغيرة الان وبلا تأخر فلبيت بلا تذمر فالمعدات لن تتعدي المائتين جنيه إذاً البقية في؛ جيبي. تشبثت بي الصغيرة تذكرني بوعدي فسمحت لها بمرافقتي ولكن كان للأب رأياً أخر.
- خليكِي مع ناننا
صاحت الصغيرة:
- أوف بقه أنا زهقت منكوا, أنا عايزه أروح مع حسام
قام أبي غاضباً وتوجه للصغيرة بينما يقول:
- وبعدين معاكي, هذبي أسلوبك وإلا والله ....
أوقفت الجدة أبي عند هذا الحد وطلبت مني مرافقة الصغيرة للخارج وشراء كل ما تأمر به أميرة دمياط ووريثة جدتها بكل شيء خاصة صلابة الرأس. خرجت بالصغيرة من المنزل بعدما نال مني التعجب هل تفهم الصغيرة كلمة مما قالها أبي وما يثير التعجب أكثر وبعضاً من السخط المعاملة اللينة التى تتلقاها من أبي فأنا لا أذكر إن صوتي علا بوجود أبي أو سببت أو سخطت على أي شيء ولكن الصغيرة لها مطلق الحرية وعند ضرورة تهذيبها يلجأ أبي للعربية الفصحى والتى قد لا تفهمها تلميذة المدارس البريطانية المكلفة, إنما بعد نظرة واحدة للصغيرة الباسمة وللنقاط الغائرة بكتفها بموضع الحقن الأخير تذكرت إن لديها ما يكفيها من المعاناة للأبد.
أشارت الصغيرة إلى صيدلية كبيرة تقف منتصبة بإعتزاز بين صروح الأبنية الفاخرة المكونة من ثلاث طوابق بحد أقصى. من أمامها الأشجار المقلمة في أشكال مخروطية بديعة داخل أصص جبسية, الورود والرياحين تشكلت وتلونت مغطية سياج واطئ من حول المبنى الصيدلي لزوجة صديق أبي الدكتورة علية كما كتب على يافطة الصيدلية من النيون. تثلَّج قلبي وإقشعر جسدي من رياح باردة إصطدمت بي لما دلفت للصيدلية الفاخرة للغاية بل وأكثر من اللازم فمكيفها الهوائي يعمل بقوة مائة حصان على ما يبدوا, أرفف وأدراج كانت حوائط الصيدلية, عوارض تحمل مستحضرات التجميل النسائية وغيرها, ثراء فاحش لم أراه قبل جعلني أتسائل لمَ أبي ليس بثراء صديقه الذي دفع بهذا المبنى مبلغ لا يستهان به.
ضمت البائعة أختي وقبلتها بمودة ثم نظرت لي متسائلة وحينها أشارت أختي لي وقالت بفخر:
- حسام أخويا طيار بطل زى بابي
قامت البائعة من خلف مكتبها وتوجت للبطل مشدوهة بينما تقول:
- ماشاء الله, كبرت يا حسام وبقيت شبه جلال الخالق الناطق كأنكوا توأم, إزيك يا حبيبي ؟
نعم بالفعل فمن يراني بماعية أبي يحسبنا إخوة وليس أباً وولده فأبي تزوج بالحادية والعشرون من عمره أي فور تخرجه في الكلية الجوية.
ودعت البائعة الودودة التي إتضح إنها صديقة مقربة لزوجة أبي كما أن زوجها زميل مقرب لأبي كذلك بعدما إبتعتُ لهنا المعدات الازمة وخرجت من الصيدلية لأكثر المشاهد إثارة في حياتي القصيرة؛ سيارة حمراء مكشوفة بداخلها فتاة جمالها النادر بندرة وجود بورشا في مصر مثل السيارة التي تقودها بحرفية كبيرة. إستمريتُ بالسير من خلفها حتى وصلت لقصرها المقابل لخرابة أبي, إنما لا داعي للتشاوم فخرابة أبي الأقل بكل شيء بين مثيلاتها بالحى الراقي بل والمثير للسخرية أمام بيت أبي قصراً يناطح قصر دمياط تقف أمامه البورشا الحمراء وصاحبتها التي تشير لي.
لابد أنني أحلم فلم أنم منذ يومان إلا إنني أفقت من الحلم للواقع البهي فأختي تهتف ميرا وتركت يدي وسارعت للشقراء الجميلة ذات العطر الفواح الذي دفعته الرياح عن مسافة شارعين إلى أنفي ليتغلل إلى نفسي الفقيرة التى لم تقابل كل هذا الكم من الجمال مجتمع بإمرأة واحدة. توجه الأخ لأخته كما المرجح وإنتظرت منها تقديمي للمرة الثانية ولكن لم يحدث فباردت :
- حسام جلال.. جاركوا
- إيه بعرفك خي هنا الكبير, هلا فيك
لذلك جميلة؛ إنها أجنبية, قالت أختي:
- فين كريم ؟
- سافر حبيبتي
حزن وجه أختي ثم قالت بتملل:
- طيب, قوليله الشوكليت اللي جابها مش حلوة, عايزه اللي كان بيجبهالي الأول
- ماشي هنا
- هو راجع إمتى ؟
- مو بعرف
بدى على أختي خيبة الأمل فقلت لإختراق الحوار:
- كريم ده أخوكي الصغير ؟
ضحكت الجميلة ثم قالت:
- لا خيي الكبير بيزنيس مان.. ثم كمشت بأناملها الرقيقة وجنة أختي وأردفت .. خطيب هنا
وحينها شاركتها الضحك والآمال, لأختي خطيب لبناني ورجل أعمال وقد لا يمانع بخطبة أخته لساكن خرابة سكنتها خطيبته. زوجة المستقبل إقتربت مني للغاية وهمست لي بعدما تحول ناظريها عني لقالب الشيكولاتة الكبير الذي بيد هنا وقالت :
- أنا اللي ببعت لهنا الشيكولا اللي مو بتحبها مشان الديابيتس, بليز ما تشترلها شيكولا مهما لحت عليك
صحتُ بخلفيتي الدمياطية بحماسة زائدة :
- أه طبعا طبعا
ففزعت الرقيقة من صياحي الحماسي إنما ضحكت نهاية وقالت برقتها :
- دِقي على هنا.. باى .. باى حسام
بااااااى .. رقبتها تغادر حتى تلاشت ولم يتلاشى عطرها الذي سكنني, هذا العطر الغريب أشعرني للوهلة الأولى بأنني أمام محال للحلوى الغربية وكل ما تمنيته الإغتراف لو لقطعة واحدة من الكيك بالكريمة فهي تحب العطور ذو الطابع السكري. سحبتني أختي من إحساس التنعم بسكنة التجمع الخامس لما قالت بخبث:
- دخلت خلاص, مش هنرووح ؟
أومأتُ بالموافقة وهممت للمغادرة فإستطردت:
- ما تقولش لبابي إننا سلمنا على ميرا
أومأتُ بالموافقة مجدداً ثم قلت بحبور:
- أبوكي عرف يختار جيرانه بصحيح
عدت بالصغيرة وبالمعدات الجديدة للحقن والتى بالرغم من سهولة التعامل بها إلا أن أبي ألزمني بحقن الصغيرة بها بغير وجوده ولم أمانع . نمت لليوم التالي حتى الثالثة عصراً لأول مرة منذ ولدت تقريباً, لم يوقظني إلا صوت تحطم لشيء زجاجي ثم صوت الصغيرة يأتي ضاحكاً من الخارج:
- بابي هينفخك (تعني طريقة غير آدمية للتعذيب ويقصد بها هُنا التوبيخ الشديد)
خرجت من الغرفة وجدت البيت منقلب رأساً على عقب, كراس المائدة ملقاة أرضاً على الجوانب, أغلفة الشيبس والحلوى بكل ركن بالردهة, وإطار كبير من الزجاج مهشم على الارض كان يحوي إحدي شهادات أبي . تجاهلت كل فوضى أضرمها الاخوة ورفع شهادة أبي من بين الزجاج المتكسر وتوجهت للأخ الأرعن قائلاً بحدة:
- عجبك الزفت اللي عملته ؟!
أجابني أخي ببرود:
- هى اللي كانت عايزة تلعب كورة
عاد أبي من عمله الخامسة عصراً ولم ينفُخ أحد أو وبخ إثر تحطم الإطار الزجاجي فقط حمل شهادة الدكتوراة خاصته ووضعها بحقيبته ثم دعانا لغداء اليوم المقرر من الطعام الجاهز أما عن زوجته لا أثر لها حتى الان. تحلقنا من حول المائدة للغداء فقال أبي موضحاً:
- انا وفدوى إتطلقنا من كام شهر لكن الحمدلله إتصافينا وراجعه إنهارده , مش عايزكوا تخافوا من أي شيء فدوى مسئوليتها الوحيدة هنا إنما لو طلبتوا منها أي شيء ماظنش هترفض أبداً
********************************
1- سعد اليتيم فيلم مصري تم إنتاجه عام 1985 وهو بطولة الفنان أحمد زكي, إخراج أشرف فهمي. تأليف عبد الحى أديب . يتناول الفيلم حكاية سعد اليتيم الذي قُتل والده بيد عمه(بدران)، وربته سيدة صالحة(كرامات) إلى أن يكبر، وحتى أن تشاء الأقدار أن يحب ابنة عمه دون أن يعرفها. الفيلم يتناول عصر الفتوات في عشرينات القرن الماضي.

أنت تقرأ
مارد من الإنس
Paranormalتتناول الرواية رحال شاب قاهري, نشأ في بيئة مترفة, ولد لرجل أعمال ناجح من أصول صعيدية عريقة, الشاب يدعى مالك يهوى الموسيقى والغناء حتى أنه حاول إمتهانهما والإنتساب لمعهد الموسيقى العربية ولكن رفض الأب بشدة فهو إستنكر أن ينبت مطرب من بين عائلته العري...