#مارد_من_الإنس
#الجزء_الخامس_عشر
تاريخ لابد من ذكره
فدوى الإتربي
جائني بكل جسور فلطالما كان مغوار . يلفق لي الإتهامات؛ يصدر الأحكام, يجلدني بنزع بأمومتي وبالنهاية يأتي لإلتماس عودتي. سمعت موتور سيارته يهدر من أسفل نافذة عيادتي, إشتممت أنفاسه بالهواء فعلمت أن الموعد قريب. ترحب به ممرضتي بحفاوة ثم تدعوه للإنتظار لدقائق حتى تنتهي الطبيبة من المريض . ملك ممرضتي تلعن الشيطان الرجيم ووسواسه الذي أدى للفُرقة وتدعوا الله لهدوء الاحوال ولكني لا ألوم الشيطان هذه المرة و ألوم غبائه والقسوة التي لم أتصور أبداً أن تسكن قلبه تجاهي.
إنتهيت من العميل فخرج فارج فاه متألم وحينها دخل جلال مباشرة يغزوه الألم بدوره وحتى قبل تلك النظرة الحادة التي رمقته بها .
خلعت قفازي المطاطي عن أناملي وقلت متهكمة :
- أهلا يا جلال باشا .. سلامتك .
جلس أمام مكتبي بهدوء وقال :
- هنا تعبانه عايزه تشوفك .
- وما جبتهاش معاك ليه ؟
- عايزه تشوفيها يبقى في بيتي .
إبتسمت ثم قلت :
- و الله .. ثم إستطرديت بحدة .. إسمع انا اللي سكتني الفتره اللي فاتت إني كنت بجمع للمحامي مبلغ محترم عشان يبتدي قضية ضم لبنتي غضبن عن عينك .. من رأيي تروح تجبها بالذوق
قص علي ما جنيناه بإبنتنا فصرخت به :
- انت كداب .. مستحيل الكلام اللي بتقوله .. قوم معايا انا عايز اشوف هنا دلوقتي
سبقته للخروج من العيادة وحتى سيارته في صمت أسمع صراخه. يلومنني؛ يشكونني للقلب الذي نذره لي, يراني كيان يهتز بالعصبية, كيان صخري لم يتصدع إلا عند سماع أسوء خبر نزل علينا . يلعن الحب يلعن الضعف الذي يطالب بعودتي الان قبل الغد فالغد هو اليوم الأخير لي بشهور العدة ولايبدوا علي الحزن على فراق أحب الناس كما كنت أتغنى له, لست ضائعة محطمة مثله أسأله العودة لحبنا, فلم أسأله غير الإسراع رغم معرفتي الوثيقة بطباعه وهو ليس من المسرعين او المتسارعين إلا بهذه المرة .
نزلت من السيارة وهرولت على درج الفيلا وحتى باب الشقة, طرقته فتح لي آسر وتنحى عن الباب, صحت بإسم الصغيرة لم تخرج لملاقاتي بعد فراق دام لثلاثة أشهر.
- حمدلله على السلامه يا خَرْج البيوت اول وتاني
قالتها الحية الرقتاء؛ حماتي العزيزة وحينها عقدت رسغي على صدري وقلت متهكمة :
- إنتِ هنا يا خاله ؟
- رجعتها ليه يا جلال دى مقامها الشارع اللي جات منه
- والشارع ده الى الجنب شارعكوا احنا مش جيران برضه يا طنط
لم ينجذب جلال لحل النزاع هذه المرة وتركنا لآسر ليسأله عن هنا :
- حسام خدها يمشيها قعدت تنزن عشان تنزل
بالطبع تعجبت لهذا الود بين هنا وحسام ولكن نحيت تلك الأمور الآن وجلست على الأريكة وللعجب أراد جلال مشاركتي الجلسة وحينها إبتعدت لأخر الأريكة في إستياء شديد. ساد صمت الأفواه وتكلمت العيون بكل سوء حتى جائت الصغيرة برفقة أخيها تضحك ولما رأتني توقفت عن الضحك وتسمرت بمكانها .
قمت إليها وضممتها إلى صدري لعدة لحظات ثم أفلتتها وقلت :
- عندك إيه يا حبيبتي ؟
أجابت عنها الجدة :
- عندها دم .. بتحس .. مش معدومة الاحساس والضمير سايبه بنتها ودايره على حل شعرها
لم أعير الإهتمام لتهكمات الجدة وإنشغلت بإبنتي الوحيدة الناقمة علي وكأنني من تسببت بتلك الُفرفة. إختليت بها وبجلال بغرفتها ثم أنزلتها من بين ذراعي أرضاً وسألت بلهفة :
- انت بتكلم بجد يا جلال هنا جالها سكر ؟
- انا ما كنتش مصدق زيك عدت التحليل 100 مره
جلست في حزن وأجلست الصغيرة من أمامي على طرف سريرها وسألتها عن رحالها بالأيام الماضية ولكن لم تجيب, أعدت عليها نفس السؤال وغيره لم تجيب مجدداً فسألته هو عن ما يجري :
- دي طريقتها للتعبير عن نفسها .. اللي تزعل منه ما تكلموش .. ما بتكلمش غير حسام و آسر
حملت الصغيرة وهمت للخروج بها فأوقفني سائلاً :
- على فين ؟
- هخدها معايا
- بنتي مش هتسيب بيتي حتى لو لميتي فلوس الدنيا .. لو عايزاها استني معاها
- استنى ازاى انت ناسي اننا اطلقنا
- انا مستعد ارجعك بس لىَّ شروط
أنزلت الصغيرة أرضا وقلت بحدة :
- لو كنت فاكر انك هتضحك عليَّ بهنا تبقى غلطان, انا مستحيل ارجعلك تاني
أشاح بكلماتي لعرض الحائط وقال غير مبالياً :
- يا شيخه روحي ده انا مش طايقك من دلوقتي وانت واقفه ادامي .. انا كل اللي عايزه بنتي تبقي كويسه والحل الوحيد انِك تفضلي جنبها .. عجبك عجبك مش عجبك اتفضلي روحي للمصيبه الى انت قاعده فيها و تنسي بنتك .. بس خلى فى دماغك انك السبب فى اللي حصلها .. بنتك كانت سليمه وجالها مرض مزمن بسببك وممكن يقضى عليها برضه بسببك
إتفخت أوداجي غيظا وقلت بحدة :
- تكسب يا جلال قول شروطك
الشروط أعلمها ولا أحتاج لسماعها تُعدد مرة أخرى بعد أن عددها مرات ومرات من قبل على مسامعي و لم أمتثل؛ أترك دراستي وعملي وألزم البيت.
صحت به متعجبة :
- ليه يا جلال ؟؟ إنت واثق إني عمري ما خنتك
- لانك ما خفتيش على بيتك وبنتك ودخلتِ بيته وانتِ عارفه ممكن اعمل فيكي إيه لو عرفت .. شفقة على مراته وعياله أخر حاجة ممكن تشغلني لأن اللي زي منير ما يستحقش شفقة ولا إللي منه .. اللي منه شفته بعيني واقف مع بنتي في نص الشارع زي الحبيبه وبيقول على بنتي أنا خطيبته .
- ولما انت عارف عايز تحبسني ليه ؟
- اللي زيك مالوش غير كده .. عجبك تقعدي خدامه لبنتك حقوقك كلها محفوظه كأنك مراتي بالظبط .. مش موافقه اكبر حاجه عاملها فى الفيلا الباب روحي فى ستين داهيه
- موافقه .. بس انا كمان لىَّ شرط .
- يا بجاتك بتتشرطي كمان .. قولى يا بابا.
- هبقى خدامه وبس مش جاريه .
- يعني ايه مش فاهم حاجه ؟!
- يعني مش هيجمعنا مكان واحد تاني ولا اوضه واحده وهنام مع هنا
حدجني بما يحسبه إستهزاء وخرج من الغرفة, أستطيع رؤية الفرح يتراقص بعينه بعدما أبديت موافقة للعودة له مجدداً بعد فعلته الغبية التى لم ولن أسامحه عليها أبداً. إنما برغم الغضب الكامن بداخلي والأحداث المؤلمة التى مررت بها مؤخراً شعرت ببعض الراحة لما عدت لبيتي وللصغيرة المستمسكة بغضبها من أمها التى لا حول لها ولا قوة. هل تفهم أو تعي ما عانته أمها طيلة فترة فراقنا أم لن تفهم إلا عندما ترزق بجميلة سليطة اللسان مثلها.
مجنون أرعن حقا خرج لردي لعصمته الان بالعاشرة مسائاً ويصف نفسه بالهدوء والرصانة وترك غضبه وغيرته الطائشة تؤدي بنا للهلاك. كيف هيأ له عقله أن أخونه ولما أخون ألجأ لسر عذابي, الغادر الطاعن من الخلف مثل السارقين. إستقطبني بكل الطرق متعلل بمرض زوجته وأولاده الضائعين, إبن جاحد لا يشغله غير تنفيذ مطالبه مهما غالى وإبنة مهشمة لم تكمل السابعة عشر ومطلقة من كهل بعمر أبيها, كانوا في حاجة لمساعدتي وصدقته. سنوات سخرت نفسي في خدمة أولاده المساكين وزوجته المريضة وكان هذا الجزاء العودة لحريم الدويري . هل يعلم ساحر النساء؛ البلطجي إنني لم أحبه يوماً كما إدعيت وإدعي, فقط إعتدت على حبه, كان ناعم سلس إعتمد على تشتيت تركيزي عن دونيته عبر إغرائي بكل ما لم أراه إلا عن طريق ثرائه الفاحش. نجح لبعض الوقت بإلهائي عن الصدع الكبير الذي حال بيننا ولكن إنتهى الوقت وعاد لبدايته بلطجي شره متعطش للمال والسلطة وإمتلاك كل ما عز على أخر لمجرد المتعة. كم من مرة تسولت العواطف ولم أجد سلوان منه, منحني كل شيء لكن داخل قفصاً ذهبي دجنت من خلف قضبانه خاضعة ككل زوجة عتيقة. ظنته شمساً تشق الغيوم إنما لم يشق إلا قلبي بخنجر الغدر وبقت الغيوم تحاوطني. ظنته ظلال الحرية لفتاة وحيدة إستقراطية بين جنبات جحيم المجتمعية القمعية إلا أنه كان قمع جديد لم يكتثر حتى بالتخفي .
من أجل حياة فرضتها على نفسي بحثت بين أكداس الكتب عن سر ترويض الوحوش ولكن دون كتب روضني الوحش حتى صرت لوحة إستعراضية باردة من نيون إنجازاته العظيمة. الصمت كان أبلغ ما توصلنا من حوار فكلماته عظات ألقاها على دون التاسعة عشر فصرت راهبة ضريح الفضيحة المنتظرة سليلة الإتربي باتت زوجة ثانية وثالثة. كم من عمل سقط وتخرب وكان هو الأداة والدليل ليسقط بين يديه نهاية. كم من عشاء قضيته معه برفقة من ظننتهم أصدقائه ثم بصباح اليوم التالي أقرأ نعيه لهم بالجريدة لما علموا ما تكبدوه من خسائر إثر يده الخاشمة. تصنعت الحماقة بلباقة وتركت الأعمال لصاحبها وظللت الزوجة الجميلة ذو النسب النبيل التي لطالما حلم بها. وكأي زوجة نبيلة حاولت أن أعلوا بعقله الضحل المنصب على أعماله إلا أنه لا يجذبه شيئ غير المال وأشكاله المتنوعة من لوحات عالمية وقصور شاهقة وأثار مسروقة ظنتها ببادء الأمر مقلدة حتى رءاها أحد الزوار وأبدى إعجابه سائلاً منير من أين إشتراهم وبكم, وجائت النتيجة ملايين من الدولارات . لم تنقصه ثقافة الفكر فقط فقد كان لديه نقص خطير بثقافة الحس لم يكن يستهويه أى شيء من الفنون التى كان يمتلكها إلا أنا, كنت لوحته, عارضته, أداته المطيعة للمتعة. متعه لم ينالها غيره, فلم يكن لي نصيب منها فمجرد إنتهائه أسارع للحمام لأتقيأ ما بجوفي ثم أنزل أثاره عن جسدي المشتعل تحت الماء البارد حتى بالشتاء .
لم يكن لي خبرة بعالم الرجال أو أم ترشدني او صديقة توجهني فتركته يعبث بجسدي وقتما يشاء حتى بدون رغبه مني أو إشتهاء ومع ذلك لم أيأس من إصلاح علاقة حكم عليها بالفشل منذ بدايتها. حاولت التقرب إليه عبر الأمومة وكان كرم الله كبيراً ولم يحدث حبل . طلبت أيضا أن أعمل لأشغل وقتي الشاغر بغير وجوده الدائم, ولكنه كان بارع بالمراوغة لم يرفض بل وعد ولم يفي يوماً ومن الوعود سوف ينشئ لي عيادة فخمة أو مشفى كبير ولم يحدث أياً منهما. تحولت من طبيبة لمحظية بلطجي الكباريهات يتركني بقصره لشهور ويظهر فجأة كالبرق المحرق, يدخل كالسارق يقضي وطره ويتركني ساكنة .
دائه ودوائه الكذب, لم يتذكر عيد ميلادي أو زواجنا بمرة من أصل أربع مرات ومن كانت تتذكر سكرتيرته الساقطة. كانت ترسل لي عوضاً عنه الهدايا الثمينة التى ظنتها منه ببادئ الأمر حتى بلليلة أرسل إلي قبل وصوله ثياب ومجوهرات جديدة مترفة الذوق لأظهر بها بعشاء الليلة وبعد أن تلقيت نظرات الإعجاب الواضحة من الجالسين رجالاً ونسائاً سألت إحداهن عن بيت الأزياء والمجوهرات الذي أبدع بهذه السهرة فسألت زوجي المحب وحينها أجاب ببرود :
- عزة هى المسئوله عن الحاجات دى
بعد الإشادة والإعجاب تلقيت الإس تهزاء فقد كنت أرتدي طبقاً لذوق سكرتيرته, وكأنه لا يكفيه مضاجعتها وحينها قالت السائلة بتهكم :
- عزة ذوقها كلاسي
حتى لم يكلف نفسه كذبة غير متقنة لجماهيره العريضة , كنت إحدى لوحات الإعلانات التي ينشر بها أعماله بكامل الشام , يطلب مني دائماً أن تكون بأبهى صوري ليس من أجله بل من أجل حفلاته ومجاملاته التى لا تنتهي حتى أصبحت مطمع من الجميع. ضقت بهذا العالم الجائع وتذكرت حبي الأول والأخير, كان دائماً يعلق بالسلب على ملابسي والتى لم تكن شيء مما كنت أرتديه حينها إرضائاً لزوجي الأول. كم من مرة تسائل جلال لمَ ما له يعرض لباقي الرجال وكانت إجابتي كيف لطيار مجتهد ينتظر بعثته لأمريكا ولازال يفكر بهذ الطريقة البالية وبأي حال ماذا يعرف فلاح دمياطي عن الموضة يكفيه طائراته والمتنبي محب البدينات. طالني الندم فيما بعد وقررت تحقيق رغبة الحبيب بعدما باتت ذكرياتي معه بعيدة نائية أراها عبر نافذة قطار الهلاك ومحطتي الأخيرة الحجيم, إنما تلك الذكريات كانت سلواي رغم الفراق. أعدت تصاميم أغلب ملابسي لأنال بعض الإحتشام الذي قد يبعد عني العيون الطامعة, وبأول عشاء بعد الإحتشام إرتديت فستاناً طويل مغلق حتى رقبتي فنظر لي زوجي بإستجهان واضح :
- مش حلو الفستان البارد ده .. فين حاجاتك الحلوه ؟
إبتسمت بمرواغة وقلت:
- زهقت منهم .. قررت اغير في لبسي شويه مش كله مفتوح
تقدم مني بنعومته ينظر لي نظراته الجائعة التى تجعل جسدي يقشعر فزعاً مما يتبع تلك النظرات ثم فتح لي سحاب الفستان الطويل وشلحه عني متحسساً كامل جسدي بينما يقول بصوتاً محموم :
- جمال زى ده .. محتاج شيئ يظهره .. مش يداريه .. إلبسي الفستان البنفسجي
جمعت شتات نفسي وأعدت الإبتسامة إلى وجهي وقلت :
- الجو برد يا موني .. والليلا مفتح أوي
لم يبالي بما قلته وذهب للخزانة ليخرج منها الفستان الفائز, وناولني إياه بينما يقول :
- بسرعه هنتأخر ..إلبسي معاه الطقم البيار ..عايز الناس كلها تحسدني عليكي انهارده
جلال كان النقيض بكل شيء حنون, مراعي, حساس لأقصى الحدود كل ما شغله بالحياة سعادتي وتعويضي ما فاتني من الحياة الحقيقة بعدما غادرني . كان بالأيام القلائل التي يمكثها معي يشعرني بإنني الحياة, القلب النابض ومن دوني الموت . يستيقظ قبلي الضابط رغم العشق الذي يستمر لبوادر الفجر يعد لي الإفطار ويأتي به للسرير, يوقظني بحرارة شفتاه على جسدي العاري الذي جعل منه معبد للصلاة والإمتنان . أصحوا لأرى صباح الإبتسامة من شفاه التى تحمد الله على وجودي بحياته وقبل أن أرد له الصباح الخيِّر يملأ فمي بالطعام فهو لا يحتاج لشيء غيري . ثلاثة أيام بالجنة ومن بعدهم ثلاث ونصف بمنشقة النار حتى يأتيني. نمت بيننا ألفة مستعرة لا تعرف إنزواء, قد يذهب إنما تبقى لمساته عالقة على جسدي تدعوه وأحيانا تنبض - كنت هنا حبيبي تسأل من أين لي بهذا الجمال لا يعرف أن الجمال جلال لا يرى إلا بعيونه. كانت سلواي الوحيدة الإهتمام بدراسته وملابسه, كويتُ له ملابسه كما تنبأت لي إمي إذ ما تزوجت ضابط وكانت تلك إحدى متع الحياة بجانب جلال. أعلت نفسي بوجوده رغم الضئالة التى إسشعرها والتى كانت بغير محلها يكفيني ما فعله من أجلي, فهو من أمَّن لي حلمي لما إبتاع لي العيادة رغم ظروفه المادية المتدهورة بعدما إختارني لطريقه القادم دون عائلته التي نفرت من وجودي بينهم, لا يعلم إن وجودي بجانبه لا يوازيه نقود العالم وقصوره فالقصور يسكنها البرود ويعشش بها الشياطين.
الغيرة, أه من الغيرة كانت من أمتع النعم التى جاد بها الحب الحقيقي. جلال لم يدعو أحد لبيته ولم يخرج بي برفقة صديق ولما سألته لمَ لا يدعو أحداً من أصدقائه للبيت أو يقيم للصغيرة حفل عيد ميلاد كبير يضم الجميع كان يتعلل بعلل ضعيفة لأنه لا يعرف الخداع . حتى بمرة تمت الصغيرة بها خمسة سنوات وأصبح لها أصدقاء بمدرستها يقيموا حفلات عيد ميلاد ويدعوها إليها والصغيرة تريد المثل فردخ الأب الحنون وأقام لها الحفل .
إنتقيت للحفل فستان مغلقاً أسود اللون وخرجت للجميع, فبدأ الحفل سريعاً للغاية ما إن رءاني زوجي حتى رمقني بنظرة غضب وطلب مني أن أطفئ الشموع الان ثم موافاته لغرفة النوم ولما أغلق الباب قال :
- إنت إتجننتي .. ايه اللى انتى لابساه ده ؟! بدلة رقص ؟!
نظرت لفستاني بتعمن ثم تحولت له قائلة:
- ما له الفستان ده حلو جداً كل اللى شافه اتهبل عليه
- من غير كتر كلام الفستان يتقلع حالاً والبسي حاجه محترمه وحسابك بعدين لأنك عارفه نظامي وافتكرتي لما تفاجيني هسكت
- مش هقلعه
- يبقى خليكي مرزيه فى الاوضه وانا هخرج امشي الناس اللى بره دول و استني حسابك
ضربت بقدمي بالأرض ونظرت له بغيظ :
- بطَّل تبقى فلاح يا دكتور
- يا شيخة إتنيلي على عين أهلك البشوات اللي بيشحتوا بره لولا أبوكي عملهم ملجأ
- الله يسامحك يا دكتور
- خمس دقايق وتخرجي مغيرة وليلتك بلون طين الفلاحين برضه
وخرج من الغرفة يتطاير الشرر من عيونه بينما تصاعدت سعادتي بالمساواة بضحكاتي, بهذا اليوم شعرت بالامان, بالحماية التي لم أشعر بهما قبلاً حتى ذهب كل شيئ فقد سهى أن يحميني من غضبه أو غبائه.
من يبالي بحب أو كراهية بعد ما حدث فعلي الان العيش لأجل من وصمتها بمرض لا شفاء منه. إعتذرت ألآف المرات حتى أرهقت الصغيرة ونامت بين يدي للصباح. أيقظتها مدغدغدة وأخيراً الضحكات التي تنير عالمي, خرجنا سوياً من الغرفة إلى الحمام لأحممها ومن ثم البحث الجاد عن حل لشعرها الذي لم يمشط منذ شهور. عوضت الصغيرة بعضاً من الإهتمام المفقود بغيابي عنها ثم خرجت بها من الحمام وجدت الحية الرقتاء إستيقظت وتحدجني بإذراء, أنزلت السكينة عنوة إلي نفسي عبر إستنشاق ثلاثة أنفاس ثم زفرهم تجاه الحية علها تحترق ثم صحت مبتسمة :
- صباح الخير.
لم تبادلني الحية التحية, فتركتها بسلام لحين ودخلت إلى غرفة الصغيرة. حية تجاوزت الستون شتاءً ممطراً بالثلوج ومازالت تبخ السموم . الحية تراني القاتلة التي يتمت أحفادها وسرقت إبنها الأصغر والأقرب إليها ولكن ما ذنبي إبنها هذا يهيم بي عشقاً وكانت تتكرر زيارته لدمياط قبل تزوجه بي لأنه لم يكن يطيق الحياة مع زوجته الأولى وكان دائماً يتذرع الحجج ليهرب من زوجته للحية إنما بعد زواجنا إقتصت زيارات جلال الأربع شهريا لزيارة واحدة فقط .
لم ألقى إستحسان الجميع خاصة زوجات الأخوة, وكنت أعلم الأسباب ولم أسعى لتحاشيها فجميعن يتمتعون بقدر كبير من الرجولة أكثر من رجالهن على عكسي بالطبع.
رأى الجميع إهتمام جلال بعائلته الجديدة ودبت الغيرة في قلوب الجميع ثم عقدت المقارنات بين الأولى المسكينة والثانية السكينة التي ذبحت بها الأولى. عند أول مجلس عائلي لي بين كفرهم السعيد سمعت عبد المقصود يهمس لجلال بعدما رمقني بنظرة تبدوا خاطفة جاب بها أعلالي لأسافلي ثم قال لجلال هازئاً :
-لا ليك حق تبيع الدنيا والدين .. نصارى ومسلمين
ثم قهقه بصوته الجاهوري ضاحكاً بإستهزاء. تاقت هناوة لحمل الصغيرة, الحفيدة الوحيدة الشبيهة لها إلا إنها إكتفت برأسها الصلب لفترة. تكره الأم وبالتالي تكره الإبنة, حتى ليلة باردة جابت ريحها الصافرة كل أرجاء القصر الكبير, خلد النساء للنوم وتركن رجالهن للتسامر ولكني لا أخلد للنوم إلا بخلوده وإنتظرته مع الصغيرة, لم تكن أكملت السنة وستة أشهر إلا إنها تعرف ميعاد مجيئ أبيها وتغفوا بين أذرعه. طال الإنتظار فصرخت الصغيرة وبكت بشدة هدئتها قدر الإمكان حتى لا توقظ نساء البيت لكن لم تهدأ حتى صاحت هناوة من مخضعها :
- ما تناموا بقه .. الليله اللي تقعدوها تقلوا راحتنا
أجلست الصغيرة بكرسيها المحكم وخرجت لأعد لها رضعة أخرى علها جائعة, إرتديت روبي الشتوي على منامتي الزرقاء الحريرية على عكس نساء الدار الاتي تلحفن بكل دثار القصر متجاهلين أن لهن أزواج يروههن بهذه البشاعة؛ مجرد خيام بدوية من الخيش الأسود. حقا لا أعلم كيف لرجالهن أن يتحملوا رؤيتهن وهن بهذا الإهمال ثم يتعجبن لمَ جلال ليس جاف المشاعر مثل أخوانه, فالأنثى يجب أن تكون أنثى صيفاً أو شتاء وليس دثار بالياً يرتجف من البرودة.
لم أرتدي كامل ملابسي للظهور بالخارج كما طلب جلال مني لأن جغرافيا القصر كانت تمنع إختلاط الرجال بالنساء بأي حال. الطابق الاول كان للأبناء الرجال من لم يتزوجوا بعد والطابق الثاني للمتزوجون أما الفتيات الصغيرات وأنا كن معزولات بالطابق الثالث وبالتالي لا داعي للحيطة وإرتداء ملابسها للظهور بالخارج فلن يراني أحد بملابس نومي لأن الرجال في الحديقة للتسامر والفتيان بغرفهم السفلية وغير مسموح للفتيان بتاتاً الصعود للطابق الثالث.
إتجهت لمطبخ الطابق الثالث فالحاج عبد المقصود كان ترفاً أكثر من أرسقراط القرن الماضي وصنع لكل طابق مطبخاً خاص وكأن كل طابق كامل بذاته. أعدت الرضعة للصغيرة وعدت للغرفة فوجدت الصغيرة توقفت عن البكاء, تحملها جدتها وتداعبها بينهما لغة خاصة مؤثرة توقفت لما رأت الجدة الأم محملة برضعة الصغيرة .
- هناوه مبترضعش منك ليه يا دكتوره ؟
حملت عن الجدة الصغيرة وجلست على كرسي لأرضعها صامتة, لم أكن لأجازف وأنظر لعيون الجدة الزرقاء المحملة بالغضب مني على الدوام ثم قلت :
- أصل اللبن عندي ضعيف
- أه مسمومه يعني
جابت عيون هناوة جسدي ثم إستطردت :
- ماهو أكل عيشك وقعتي صاحبه بيه وبعديها وقعتيه
تنهدت بعمق ولم أجيب فشعرت هناوة بالإهانة من صمتها وأردفت :
- مش عاجبك كلامي يا خَرْج البيوت ؟!
- شوفي يا طنط بغض النظر عن اللى انتِ قولتيه لاني مش فاهماه واضح انه لغة دمياطي .. ابنك هو اللي حفي عشان يجوزني
تقدمت مني هناوة والغضب يملأ عيناها :
- انا ابني حافي يا شبعه بعد جوعه يا تربيه الشوارع بس العيب مش عليكي العيب عليه هو بس انا هعرفك مقامك يا خَرْج البيوت
صرخت هناوة على ولدها الأصغر فأتى مسرعاً على نغماتها, لم تعطيه فرصة للسؤال وصاحت هي متسائلة, بأي زوجة إبتلى قليلة الحياء والأدب من خرجت من غرفتها بهذه الملابس رغم وجود رجال غرباء عليها بالبيت وتجرأت وصاحت بأمه وسبتها.
جزعت من الإتهامات الملفقة ودافعت عن نفسي قائلة :
- ما حصلش يا جلال دى كدابه
صاح بي جلال بلا بينة :
- إخرسي .. انتِ ازاى تسمحي لنفسك تشتمي امي اتفضلي اعتذرلها حالا
- و الله ما
قاطعني جلال بنبرته الحازمة :
- إعتذري حالا
ردخت لتنال الحية نصرها المؤجل وحينها خرجت هناوة على نغمة أخرى, فهي تصفني بفأل الشؤم على إبنها الذي أغلق الباب من خلف أمه وعاد إلي فأل الشؤم يحدجني بغضب :
- انا ما شتمهاش
- انتى قوتلها كدابه ادامي دي مش اهانه
أطرقت برأسي للحظات ثم نظرت إليه وقلت :
- لانها فعلا كدابه كل الكلام اللي قالته ما حصلش
- تاني يا فدوى .. بتقوليها تاني .. امي مش كدابه انا عارف اسلوبك فى الكلام .. ده غير انك كنتي خارجه من اوضتك بالشكل ده وانا محذرك من قبل مانيجي
- هنا كانت بتعيط
قاطعني قوله :
- اياً كانت الاسباب احنا لينا نظام ولازم تمشي عليه بعد ما بقيتي جزء من البيت
وكانت تلك المرة الأولى التى يصيح بي زوجي أو يرغمني على فعل شيء بعد زواج دام لثلاث سنوات, ماضي أسود لينضم لباقي الماضي. أعدت للصغيرة وللضيفة الغير مرغوب بوجودها الإفطار, تناولت صغيرتي طعامها بنهم أما سيدة قصر دمياط لم تقم من مجلسها, ولم أبالي وصبت إهتمامي على الصغيرة التى نحفت للغاية.
خرج شاب أسمر يتثائب يكاد أن يكون نسخة مطابقة عن أبيه عندما كان بمثل سنه الصغيرة إنما أنحف قليلاً, لا ينقصه إلا تلك البدلة العسكرية ليكونا توأمين وليس إبن وأبيه, إكتمل ذلك الفتى الحزين على غفلة من الجميع, طالما كان منزوي بركناً قصي عن عيوني رغم أن كل ما تقت إليه هو الربت بحنان تهويناً عليه ما فقده, فهأنا من أفقدته إياه ولم يتجاوز حزنه يوماً على أمه. قامت الصغيرة عن إفطارها وسارعت لإحتضانه بقوة من خصره بينما تقول :
- حسام حبيبي
بادلها تحيتهما الخاصة قائلاً :
- هنا حبيبتي ثم حملها على كتفه وعاد بها للمائدة .. حمدلله على السلامه يا طنط
- الله يسلمك .. تفطر إيه يا حبيبي ؟
- أي حاجه يا طنط ... إللي موجود
- لو إعتمدت على الموجود .. هتجيبلك طبق فاضي تلحسه
حددت هناوة خيارات الشاب الأسمر الذي يداعب الصغيرة بتبديل ملامحه بمرح وإلهاها عن طعامها, لم يلهيها كلياً يطعمها بيده كما يفعل والده وإن عادت هى للمزاح يلزمها طعامها ويعدها باللعب في الحديقة بعد الإفطار. كم تقت لرؤية هذا الود الأخوى منذ زمن, أين إختبأ ليظهر للصغيرة وهى بأشد الحاجة إليه. خرج الأوسط وشاركنا المائدة, حياني هو الأخر وأثنى على الشعر المنسق للصغيرة عبر جذب جديلتها بمرح ثم طلب من أخيه الإفطار.
أفقت من الحلم الجميل على الواقع الأبهى وقمت على الفور لأعد الإفطار الأول لجمعة للأخوة. يأكلون, يمرحون, يتصاخبون بين ثلاثتهم أحاديث لا تنتهي وأسرار أيضا يتهامسوا بها بعيداً عني, يبدو أن الفجوة الكبيرة التي حالت بين إبنتي وأبناء زوجي بطريقها للإختفاء .
نظر حسام لجدته الساهمة وسألها مشاركتهم الإفطار فقالت بفتور :
- مقدرش أكل حاجه من إيدها .. تسمني
حرياً بسيدة دمياط الأولى أن تخشى صاحبة البيت لأنني قد أفعل ذلك بالفعل لأتخلص من هانم هوانم دمياط من تركت زوجها وقصرها لمراقبتي عن كثب, فهي تخشى على الولدان من زوجة أبيهم . هل تعلم هناوة أنني لست زوجة أبيهم لأني أمهما, فلو كان جلال قوياً كفاية لكانا حسام وآسر ولداي وهذه فرصتي لإستعادة ولداي الضالين عني منذ زمن .
بدى على حسام الإهتمام بدارسته منذ اليوم الأول بينما آسر كان النقيض مستهتر, ضائعاً بكل هوى وجائت نتائج إستهتاره بعلاماته الدراسية وحينها عرضت عليه المساعدة بالإستذكار فماطلني وتهرب بكل طريقة. أخيه كان النقيض يشبه أبيه إلى حداً كبير له نفس القلب, تائق للحنان وأعطته له بكل الحب, تابعت معه دراسته التي أعرف عنها أكثر منه بحكم إستذكاري الأول مع زوجي حتى حصدت ما زرعته, وأصبح حسام من سنته الأولى بالكلية من أوائل صفه والسعادة ملأت قلب أبيه, وقلبي إلا إنني إنتظرت الشكر والعرفان ولكن لم أجده إلا من ولدي البكر كفاني.
حبيبين الأمس أمسيا زملاء السكن اليوم مع بعض المنافع أنا خادمة ومربية وهو عائل المنزل, لن أنكر لم أكن لأنجب الولدين فبعد ولادة هنا حاولت لسنوات الإنجاب مرة أخرى ولكن إرادة الله, لذلك هو الان أكثر من عائل للمنزل فقد أهداني ولداه. لا يجمعنا إلا ساعة الغداء, تكون أغلبها طلبات جديدة أو جدال بين الأبناء تكون مسببته الصغيرة, سعيدة بعد أن أصبح لها أخوين يداعباها أحياناً ويشاكساها أحيايين, أما عن باقي اليوم يظل جلال بغرفة النوم يقرأ كتبه التي لا تنتهي ومن يحتاجه من الأبناء يقتحم غرفته إلا أن الاقتحام كان لهنا بعد أن بات لها دورٍ محوري بالمنزل فقد أصبحت مندوبة الأخوين لأي مطلب.
ظننت أن الحاجز الحائل بيننا سوف يتساقط تدريجياً ويعود زوجي لي شاكياً باكياً أسفاً عن ما بدر منه ولكن لم يبدي أسفاً فقد أعادني خادمة بحقوق زوجة كما طلبت. كل ما ربطنا حينها كلماته الحادة من حين لأخر لما تشكوا مني الحية إليه وما أكثر شكواها. نحّيت القلب المنشغل بالحبيب الهاجر للإبن الأوسط بعد أن تشممت رائحة السجائر بالمنزل, قمت بتحسب حتى غرفة آسر فتزايدت الرائحة طرقت الباب, ُطلب مني الإنتظار للحظات حتى فتح لي. لما دخلت غرفته إشتممت عبق معطر جو بالبرتقال لم يطغوا على عبق التبغ فجلست على سريره المكوم أعلاه مجلاته ورواياته البوليسية وقلت بهدوء :
- انا ممكن ما قولش لبابي بس بشرط
إتسعت حدقتي آسر دهشة وقال :
- هتقوليله على إيه يا طنط ؟
قمت لمكتبه للبحث عن أدلة بين الكتب حتى وجدتها في كتاب لم يطالع به يوماً كان كتاب التاريخ, ووجدت به السجائر. عرضتها عليه فتقدم مني وقال بتوسل :
- عشان خاطري يا طنط بلاش تقولي لبابا
بالطبع لن أخبر جلال لينزل عليه عقاب المرتدين فجلال توقف عن التدخين منذ زمن وأنا فقط من كنت أدخن بالخفاء في عيادتي أو بغياب زوجي والإبنة ثم اقلعت عنوة لأن المنزل لا يخلوا أبداً. عوضاً عن الوشاية بالصغير إبتزيته, وفرضت شروطي على المراهق المشاغب وطلبت منه الإستذكار بإجتهاد وأنا من سوف أراقبه عن كثب وبدأ ينشغل آسر بطلبات زوجة أبيه التى لا تنتهي وعاد كلا بثماره إليه. نتائجه الدراسية أتت مفرحة للجميع, سعد به جلال وتبدلت معاملته الخشنة مع آسر حيث كان كثير الشجار معه لان درجاته متدنية على الدوام ودائماً ما يقعد المقارنات بين آسر وأخته الصغيرة التى تحصل على درجات مرتفعة بإستمرار رغم إنها فتاة ومريضة, وكأن كون هنا فتاة أو مريضة ينقص من عقلها المتقد شيء, بأي حال أثنى جلال على ولده الأوسط وأشترى له دراجة وزاد من مصروفه حتى دبت الغيرة بقلب الصغيرة المجتهدة على الدوام ولا تلقى هذا الدلال من والدها وحان الإقتحام.
دخلت على إبيها تقطع عليه قرائاته ونادته :
- جلال
قبل أن يجيبها إبتسم بتحسر, فقد كان دائماً يشار إليه بسيادة العميد من زملائه وطلابه ولم يعد يسمع إسمه إلا من ثلاث أحداً أعلى منه رتبة والتى على الأغلب تكون لوائاً, وأمه وأنا بعد الكارثة. فقد كنت أناديه بالسابق بحبيبي وبابي لأنني وجدته الأب والحبيب والأخ الذين حرمت منهم, وكانت هنا تقلدني وعادت لتقليدي :
- افندم سيادة اللواء
- انت ليه زودت مصروف آسر وانا وحسام لاء ؟
لا تنفك تطلب النقود لكل الأسباب وأتفها رغم أن كل ما تطلبه توفره لها جدتها بلا مشاحنات أو تداخلات من جلال الذي لم يجد ما يقوله للحظات حتى يتنثى له إقناع الصغيرة بحجته حتى قال :
- كلام في سرك يا نوننا انا بشجعه .. ما يخفاش عليكي آسر خايب فى الدراسه مش زيك انتِ و حسام و اول ما نمره عليت كان لازم حافز
وكأن ما قاله لا تعرفه الصغيرة مسبقاً وكذلك لا تبالي به .
- بسيطه أسقطلك انا و حس عشان نلاقى حافز
ضحك أبيها ثم قال :
- انت لو سقطتي مش هتلاقي حافز هتلاقي علقه من بتوع زمان فاكراهم
- ظالم
يأست سريعاً كعادتها فقد كان يمازحها, همت بالخروج فإستوقفها :
- هزوِّد المصروف .. روحى طمنيه يا سفيرة نوايا العقارب
ابتسمت الصغيرة ثم قبّلت وجنة أبيها وخرجت من الغرفة لتذيع خبر النصر لأخيها الأكبر فهي مندوبته . للوهلة الأولى نبدوا عائلة كبيرة جميلة, زوج حنون أبناء متفوقين زوجة متفانية ضحت بمستقبلها القريب للبعيد؛ أبنائها. صديقاتي تعجبن من تركي للعمل للإعتناء بأبناء ليس لي, أما أصدقائه يمتدحون الزوجة المتفانية متمنيين من زوجاتهم المثل فيجيبهم بأنهم لم يحسنوا الخيار مثلما أحسن وإنتقى الحب والرحمة قبل كل إعتبار زائل. ترى أين الحب والرحمة متى يرحم من عذبها منذ إلتقته حب ثم هجر ثم وصال ثم شك وهجر من جديد ثم حرمان من حياتها النابضة بجسد غير جسدها, إلى أن إنتهى الإمر بالإبتزاز لو أردت العودة أعود لأجل إبنتي وإلا.
الإجازة الصيفية, الأولاد بغرفة الأخ الأكبر على الدوام وأنا بموقعي الدائم؛ المطبخ أعد لكلاً طعامه الولدين وجلال طعامٍ خاص وهنا وهناوة طعاهما الخاص بمرضى السكري وأنا ملتزمة بحمية القاسية بعدما إكتسبت عدة أرطال إثر ملازمتي للبيت منذ عودتي. تنزهي الوحيد يكون لزيارة صديقتي الملاصقة الجيرة, الصديقة العزيزة دائما تلح عليها بالمباردة ليحل الربيع على زواجي الذي تجمد لأجل غير مسمى . مباردة !!! بعدما وصف حبي له جرأة وسلوك غير حيي إكتسبته من معاشرة البلطجي لا أظن أن مبادرة قد تأتي من ناحيتي مرة أخرى وقد تكون مجدية. ربتت صديقتي على كتفي مهدئة بعدما تساقطت دموعي على سنوات ضاعت بوهم الحب وقادمة بطريقها للضياع فقد صدق إدعائي بكوني خادمة بحياته وأمسى كلاً منا ينام بغرفة منفصلة.
ضاقت صديقتي بدموعي وضعفي وقالت :
- وأخرت البكى .. مفيهاش حاجه يا فدوى ده جوزك .. حقك .. هو بس اللي بيكابر .. أكيد بيتقطع من جواه .. كملي جراءه يا ستي
إبتسمت بالكاد فأردفت صديقتي :
- بكره كل شيئ يبقى كويس .. وياريت تبطلي تنامي في أوضة هنا و ترجعي أوضتك كده الوضع مش مظبوط على الأقل أدام الولاد
بموعده ضرب جرس الفيلا ليصطحبني للعودة, لا يثق بي لمسافة عشرة أمتار. حيى صديقتي ثم سأل مباشرة عن الصغيرة .
- مع الولاد فوق .. إتفضل أقعد يا جلال هاشم زمانه جاي نتعشى سوا
تحول عن صديقتي إلي يحدجني بغضب ويقول :
- مفيش داعي .. فرصه تانيه إن شاء الله
حانق علي لأنه طلب مني مسبقاً أن لا أدع الصغيرة بعيدة عن مرمى ناظري خصيصاً بمنزل صديقتي, فهو يخشى على إبنته من طفل بعمرها, يبدوا إن هوسه بحماية الصغيرة يزداد يوماً بعد يوم بعدما فقد هوسه بزوجته . أتت الصغيرة وخرجنا من بيت صديقتي إلى بيتنا في صمت ما قبل العاصفة الجارفة.
لم يمهلني لإلتقاط أنفاسي وصاح بي :
- انا مش نبهت عليكي بنتك تفضل تحت عنيكي طول الوقت
- إزاى يعني أكتفها مش طفله ولازم تلعب و تعيش سنها
- تعيش سنها وتبقى مهندسه زى خطيبها اللي لسه بترسمه لحد دلوقتي
تنهدت بعمق وعدت للإمتثال للقوانين الجائرة وقلت :
- حاضر يا جلال هكتفها وأكتف خيالها ولسانها وكل اللي تؤمر بيه .. راضي ؟
- البني أدم العاقل يحب يشوف عياله أحسن منه مش زيه
تركني وذهب للصغيرة بغرفتها ليلقنها درساً بالأخلاق ينتهي ببكائها حتى الإنهاك ثم النوم كمداً. فتاة بالثامنة من عمرها ينهيها عن مخالطة الفتيان من عمرها لأن الفتاة المهذبة إبنة اللواء جلال ليست كسائر الفتيات قليلات الحياء اللاتي يتحدثن إلى فتيان بعمرهن بمدرسة الشيطان التي ألحقتها بها أمها فإبنة اللواء ملاك من السماء حط على الارض وأعلى من تلك الموبقات, يبشرها بنار موقدة سوف تحاوطها لتحرق جسدها حتى يذوب ويتبدل لجديد ليذوب مجدداً وتتآلم آلم كبير يتخطى ألمها يومياً بالوغز بالحقن إن لن تستمع لنصح أبيها لأن مكان من يعصي أبيه النار وليس الجنة التي سوف تأكل بها كل حلوى حرمت منها, وتتنزه في حدائقها ليل نهار كما تتمنى.
إنتظرت لمنتصف الدرس ثم دخلت إلى غرفة الصغيرة لأرى وقع كلمات الأب التى لم تكن حادة هذه المرة وبرغم من ذلك عيون الصغيرة دامعة تبحث عن مخرج لم تجده إلا بأرضية الغرفة, تنظر إليها ولا تنظر لأبيها فأعاد أبيها ناظريها إليه وأكمل فقاطعته :
- انا هنام في الجنينه مع القطه .. مش عايزه أقعد معاكوا
- انا خايف عليكي يا نوننا
صرخت بحسام مغيثها الوحيد ولكنه خرج للتنزه مع أصدقائه والصغيرة تعلم ذلك مسبقاً ولازالت تصرخ بإسمه بحدة قد تهدم علينا البيت بيوما من الأيام ورغم ذلك جلال لا يتوقف عن إستفزازها بحجة إنها تحبه و ليس في وسعها إيذائه . أتت جدتها وضمتها لإحضانها لتهدأ ثم صاحت بنا لنخرج من الغرفة. ظلت الجدة برفقة الصغيرة حتى أخلدتها للنوم مبكراً على عكس عاداتها, فالصغيرة عنيدة ماكرة تتحايل بكل الطرق لتتملص من موعد نومها بالثامنة ولكن الجدة تقص على مسامعها حكايا مفزعة تجعلها تستعجل النوم للهرب من العفاريت والجنيات أبطال حكايا جدتها المخيفة ولما إستنكرت تلك الحكايا التي تلقى على مسامع إبنتي المعلقة بأي حال بعالم الغيبات ذجرني الاب بقسوة وأخبرني أن من ربت ست أبناء صالحين لن تستعصي عليها حفيدة في الثامنة لم تحسن أمها تنشأتها حتى أمسى لها خطيب بعمر أبيها وعلاوة على ذلك الخطيب إبن زوج أمها الأول ثم باقي الرواية التي لا يمل سردها.
خرجت الجدة من غرفة الصغيرة تصيح بجلال :
- بقولك إيه إبعد عن هنا .. شيلها من دماغك .. مش كل تتعوج المايله تتطلع قلة حيلتك في البت
صحت مستنكرة بالجدة :
- ما تشيليني من دماغك إنت كمان دي ما بقتش عيشه
وتركت مجلس الغضب المنصب علي بلا ذنب إلا أن جلال أوقفني قائلاً :
- أخر مره أسمعك بتعلي صوتك على أمي
عدت إليه عيوني المتحدية مسددة لعيونه الحزينة على الدوام وقلت ببرود :
- إديني بنتي ومش هتسمع صوتي نهائي
أبعد عيونه عن عيوني وتمنى لوالدته ليلة طيبة ودلف لغرفته, ثم تبعته الحية تمتم بالحسرة على ولدها الضعيف أمام كيد زوجته اللعوب, بالطبع هذا ما إستشفته الحية فكلما وطئت قدمي خارج البيت يعود جلال والغضب مرتسم على وجهه فقررت من اليوم فصاعد أن لا أخرج من المنزل أبداً لأتجنب الغضب والشكوك وأرى المزيد من الصدوع بإبنتي الوحيدة .
جميع من بالمنزل متقبل طبيعة هنا الغريبة حتى أخويها, يروها تحدث الأطياف ولا يستنكرا بل والأكبر يعاونها على مساعدة الأطياف العالقين بين العالمين ليذهبوا للنور كما تردد بينما جلال يستنكر الأمر برمته ويري أن الموت فناء ولا عودة لموتى بأي شكلاً من الأشكال بعد موت ويرجح كذلك أن ما تراه هنا جن متفرغ ملول ويستغل إبنتي للتسلية. هناوة كذلك كان لها رأي وأثبته فمرة واحدة نهضت عن مجلسها من أمام التلفاز وإقتحمت غرفة الصغيرة بلا إستئذان وتلك كارثة فالصغيرة أمست مراهقة بالثانية عشر من عمرها وفرضت علينا جميعا خصوصيتها وإقتحام غرفتها سوف ندفع جميعنا ثمنه غالياً مهما كانت علة المقتحم .
هناوة تقترب من سرير هنا النائمة عليه في سكون, يمناها تتخل شعر هنا وتخرج بشيء لم أراه ولكن خمنته, تحكم قبضتها على الشيء بقبضة قوية وتقول :
- و بعدين فيكي يا بنت الشياطين إنتي مش هتحلي عننا
سمعت خرخرة مقترنه بتنهيدات عميقة وكأن أحدهم يختنق ثم هناوة تقول :
- لولا عارفة علتك كنت حرقتك من زمان لكن عارفه إنك عيله فاضية و عايزة تتسلي على بنتنا
تصمت هناوة لوهلة ثم تردف :
- و إحنا هنجيبلك دم منين .. هنقتلك قتيل .. صرفي روحك بمعرفتك
تشعر هناوة بوجودي فقلت متوجسة أخشى غضبها :
- هنا هتصحى
بالفعل كانت هنا تتقلب في فراشها ولكن بلمسة من الجدة على رأس هنا سكنت الصغيرة على فراشها. عادت الجدة للشيء الخفي وقالت بينما تفتح نافذة غرفة هنا بيدها الأخرى :
- غوري .. لو شفتك هنا تاني هحرقك
ثم ألقت ما كان بيدها من النافذة ثم أغلقتها بهدوء وتحولت إلي بنفس الهدوء وتشير لي بالخروج من الغرفة. بالطبع إمتثلت لها وخرجت من الغرفة وإنتظرتها حتى عادت لمجلسها أمام التلفاز . لم تعير لنظراتي المتسائلة الإنتباه وراحت تقلب قنوات التلفاز وكأن شيء لم يحدث و حينها قلت :
- هو إيه اللي حصل ؟
- اللي حصل إنك نايمة على دوانك هنا جرحت نفسها بعد إتخانقتي مع جلال على الصبح
هرعت لهنا لأرى جرحها الجديد فأوقفتني الجدة قائلة :
- تعالي يا ختي وهو انا هستناكي لما تفوقي لبنتك .. سيبيها تنام
عدت إليها و قلت :
- ممكن أسال حضرتك سؤال ؟
- لاء ..إجري أعمليلي شاي بلبن
- طب إسمعي ..
صاحت بي مقاطعة :
- ما طالعيش شياطيني روحي إعملي الشاي
ذهبت بالطبع وأعددت الشاي وإلي جانبه قطعتين من الكيك المنكه بالعسل الأبيض والذي أخفيته عنها لأنها في وسعها تناول محال حلوى بالكامل ومن ثم تنتابها نوبة سكري تفقد على أثرها الوعي ويلومني جلال على إهمالي لأمه بل ويتهمني بالشروع في قتلها لأتخلص من وجودها في بيتي .
نظرت للكيك وقالت بتهكم :
- هو الكيك طلع إمتى ؟!
ثم نظرت لي بخبث وكأنها تعرف سبب مبادرتي بالكيك وأردفت :
- عايزة إيه ؟
كم سريعة البديهة تلك القروية فقد كشفت خدعتني من نظرة فقلت :
- إشمعنا هنا ؟ ليه من زي كل الأطفال طبيعية ؟
- وراثة .. زي ما ورثت حلاوتي ورثت قوتي
- طب و البنت إياه بنت جلال ؟
- لاء
- والست السمرا خاني معاها مش كده ؟
- كده .. و خلف منها وإضربي دماغك في الحيط
ما سوف يضرب ليس رأسي بل رأسه عند عودته من عمله بكل تأكيد .
- و لا تقدري تعملي حاجة .. بتموتي فيه و أنا عارفه
كنت أناجي نفسي ولكنها سمعت نجواي فقلت :
- ما انتي بتحبي عبده و كنت هتموتيه !!!
- خليكي في حالك
- يعني أسكت ؟
- زي ما سكت على عملتك السودة .. واحد غيره كان قتلك مش يطلق ويرد .. طول عمره طيب
كذبت إتهامات جلال لي وقلت :
- و الله العظيم ما خنته زي ما هو فاكر
- عارفه وبرضه غلط وجه على دماغك .. في الأول إجوزتي منير عشان تغيظي جلال وما حدش إتبهدل غيرك وبعدين إجوزتي جلال زي ما أنتي عايزة وكنت عايزة تنقمي من منير بعد ما طلع عينك وكله جه على دماغ إبني اللي إتكسر وسطه بسببك
بكيت, كما بكيت بمنأى عن الجميع لما عرّضت حبيبي للأهوال والهول الأكبر إصابة ظهره التي لم تتعافى حتى اليوم و حرمته من أحب الأشياء إليه؛ الطيران.
ومن جديد تقرأ نجواي القروية وتقول مهونة :
- إللي حصل حصل .. انا أصلا ما كنتش عجباني شغلته دي
- طب و هنا ؟
- ست البنات مالها ؟
- البنت اللي شوفتيها في أوضتها عايزة إيه ؟
- عايزه دمها .. وهنا كانت مجروحة و جات تلم اللي وقع
- والراجل الغريب اللي بتحلم بيه و بترسمه ؟
- يبقى أبو البت .. كانت بترسمه عشان تفرجه للبت .. عايزه تشوف أبوها حقها
أومأت بتفهم ثم عدت للتسائل :
- هنا بجد هتجوز تلات رجاله ؟
تجيبني الجدة مازحة :
- يا ختي ما تجوز يا بختها
أضحك معها ثم أقول :
- تعرفيهم ؟
- إتنين طوال .. وواحد قصير .. الإتنين الطوال واحد إبن زنا والتاني إبن حلال مصفي .. إبن الزنا غدار لكن يصون الجميل .. هيئته حلوة لكن جواه سواد الدنيا كله .. إبن الحلال عنيه زي عنين الديابه .. حليوه و شايف نفسه .. ناصح و أهبل في نفس الوقت .. في الأصل حارس عشقها وحرق نفسه وبدر رماده في البشر عشان يطولها وعشان يبعدها عن العرش لأنه حارس أمين عارف إن الملك بتاعه عقله طار لما بنته إتحرقت .. كان بيحبها و عرسه عليها قريب واللي إتبقى منها هنا والبت إياها لكن مال لهنا
- هتجوز عفريت !!! طب و كده كويس إزاي ؟
- لا كويس ولا وحش نصيب .. وزي ما قولتك الحارس عاقل وهيمنع هنا عن العرش
قلت بإستسلام :
- طب كويس
- لاء مش كويس .. العرش وراثة ووريثة هنا أختها .. هما تحت إخوات .. و لما أم دم مخلط تحكم هتخلط العوالم وده غلط وأول حاجة تعملها هتخلص من هنا عشان محدش يقف في طريقها
- والحل ؟
- لسه مش باين
- إزاي إنتي مش بتشوفي المستقبل ؟!
- محدش بيشوف الغيب .. انا بشوف الروح .. بشوفها رايحة فين والتلاته روحهم فيها .. فيهم اللي طمعان .. و فيهم العشقان .. وفيهم الأهبل زي ما قولتلك

أنت تقرأ
مارد من الإنس
Paranormalتتناول الرواية رحال شاب قاهري, نشأ في بيئة مترفة, ولد لرجل أعمال ناجح من أصول صعيدية عريقة, الشاب يدعى مالك يهوى الموسيقى والغناء حتى أنه حاول إمتهانهما والإنتساب لمعهد الموسيقى العربية ولكن رفض الأب بشدة فهو إستنكر أن ينبت مطرب من بين عائلته العري...