#مارد_من_الإنس
#الجزء_السادس_عشر
تاريخ لابد من ذكره
جلال عبد المقصود
تبذل فدوى كل ما بوسعها لراحة الجميع إلا راحتي, منذ خرجت أول مرة لم تعد, لازمها هدوء أقرب إلى شجن ليس من شيمها . لا زالت تضحك وترقص وتتجمل ولا أعرف لأجل من . قريبة بعيدة قليلاً ما تنظر لعيناي والغريب ليس خجل من فعلتها بل غضب من فعلتي, ماذا كان ليفعل أى رجل بموضعي كنت قاب قوسين أو أدنى من قتلها حتى تذكرت والدي وأبنائي وما قد يلحق بهم من بعدي لذلك فضلتُ طردها من حياتي قبل أن تفسدها كلياً إنما فسدت حياتي بأى حال فأي حياة دونها .
أي جدال تنهيه لصالحي أو لا تنهيه وتترك لي الدفة المائلة, قدت لمسافات بعيدة وتلزمني راحة على بعد خطوات لا تأتي أبداً.
أحدهم قطع مناجاتي إنها الصغيرة لا تطرق أبداً باب مكتبي وأحياناً تطرق باب غرفة نومي بعدما نهرتها أكثر من مرة, لم تكن الصغيرة من تطرق بابي بل زوجة تطلب الإذن من زوجها لتدلف لغرفة نومه وكأن ذلك قد يحدث بأي زمان, صلابة رأسها جمدت مشاعرها تجاهي حتى أمسيت غريباً في بيتي يطلب الأذن للمرور عليه.
تسألني إذ كان لدي وقتاً شاغر لمحادثة طارئة, لا تعلم أن كل وقت وقتها. جلست بجانبي على الكرسي الأخر الذي لم تجلس عليه منذ وقتاً طويل. وضعت صفحة تحمل فنجان واحد من القهوة على الطاولة التي تتوسط الكرسين ولم أطلبها, بالأيام السعيدة كان شاى الخامسة في غرفة النوم له معاني أخرى منعتها عني بعدما أمست خادمة وليست جارية.
- الولاد محتاين شويه حاجات وعايزينك تنزل معاهم
- حددي الميعاد اللي يناسبك وانا أروح معاكوا
- الولاد اللي عايزين مش أنا .. هنتزل معاهم لوحدك
حدجنها بتعجب وقلت:
- وانا من إمتى ليَّ في الامور دي لازم تكوني معانا
- انت مش قولت إني مش نازله من البيت تانى
- إلا معايا ..انتِ كمان اكيد محتاجه حاجات انتِ من ساعة ما رجعتِي ما طلبتيش اى حاجه
- شكراً انا اللى مش عايزه أنزل معاك
- انزلي لوحدك
- برضه لا .. مش عايزه اديك فرصه تهيني
- انت ليه مصره تنرفيزيني اعملي اللى انتِ عايزاه
وتركتني على الفور وخرجت ككل جدال قبل أن يتصاعد كما تحسب لا تعلم أنني لم يعد بمقدوري دفع أى شيء لا للأمام او الخلف وكل ما تبقى لي العمل وصياح وصخب الأولاد الذي يملأ البيت الجديد والذي لم آلفه بعد, كان القديم أقرب إلى قلبي نعمت به بالقربة أما الان جدرانه أصبحت سجني الجديد .
ترى كيف إستدرجها منير هل حقاً شعرت بالذنب تجاه زوجته لذلك كانت ترعاها بخبرتها الضئيلة بالطب وبعد موتها نقلت هذه الرعاية لأولاده أم حصلت على بغيتها مني بإنجابها ثم ضاقت من معيشة ضنكاً معي وأرادت الترقي, اللعنة السؤال جاوب نفسه مرارًا لما ذهب إليها منير وطردته للمرة الألف, إنما الشيطان ووغزه.
تحدد الموعد على عجالة باليوم التالي مباشرة, الأولاد من توسلوا إليها لتذهب معهم حتى ردخت. إصطحبتهم بنائاً على مشورتهم للمتاجر الكبيرة ذات الأدوار المتعددة التى غزت البلاد مؤخراً مع مبلغ كبير من المال ناولته لي أمي في الخفاء حفاظاً على ماء وجهي الذي فقدته منذ نصبت الطامع بثروة أمي و أخواتي فأبي منع عني المعونات لأني أمسيتُ أبا مالكة الثروة والتي طبقاً للقوانين الجديدة للمرأة تشترط موافقتها على أي شيء بخصوص أعمالها وإن كانت قاصر و أنا الواصي الوحيد عليها والإبنة لا تخطوا خطوة دون إذن أمها والتي بدورها تنصاع لأمي فقد شكل نساء بيتي حزب المعذبين لأبي لمجرد أنه تزوج أخرى وقهر أمي المسكينة التي لا يبدوا عليها أي حزن على فراق زوجها و أبو أبنائها فقد أمسى لها صديقات بالتجمع الخامس تزورهن و يزوروها بل ويخرجن للتنزه سوياً وهن بتلك السن المتقدمة وتعود للبيت أحياناً بعد منتصف الليل من تلك النزهات وإن أبديت إعتراض تهددني بحرماني وحرمان إخوتي من ميراثها وتوزيعه على جمعية ترعي الكلاب الضالة .
أهاااااا نساء!!!! عودة للتسوق, لم يكن تسوق في الواقع, كانت رحلة خلوية سادها المرح, أنا بمعزلي وهم أسرة كبيرة سعيدة. الولدين لا ينجذبا للشيء إلا وعرضاه عليها أولاً وإن لم يلقى إستحسانها يتركاه من فورهما ما عدا الصغيرة العنيده المتشبثة برأيها مثل أمها وجدتها, تريد إرتداء ما ترتديه الأجنبيات زميلاتها بالمدرسة لتتحول لراقصة بالحادية عشر من عمرها. تركتها تشتري ما تريد شريطة إرتدائه في حفلاتها المنزلية وعند ظهورها بالخارج تعود إبنة جلال عبد المقصود.
وافقت على مضض بعدما زفرت بوجهي بضيق ثم - أوف بقه - أرهقني التجول بأدوار المركز التجاري الضخم وضخب المارة والأولاد ولابد من أن أتوقف لبرهة لألتقط أنفاسي.
- انا خلاص مش قادر .. خدى ماما يا نوننا ولفوا انتوا وإحنا هنقعد على القهوه
ضحكت الصغيرة بلا أسباب واضحة ثم صححت لأبيها من جاب العالم أجمع :
- قهوه فى المول !!! اسمه كافيه يا جلال
أشحت بثقافتها بغير موضع حسن عرض الحائط وقلت بسأم :
- روحى الله يسهلك
ساعتان في إنتظار الصغيرة قضتهما بسماع جدال الولدين على من سوف تئول له السيارة القديمة بعدما بشرت الجدة بشراء سيارة أخرى جديدة لرب الأسرة المسكين الذي تقسّم تركته على مرئي منه ثم حساب القهوة التي ليست بقهوة حقا كما إدعت الصغيرة فقد كانت فندق عائم خاصة لما دفعت مقابل ثلاثة أكواب من الشاى وكوبين من العصير ما يدفعه المرء بسهرة, الغلاء كان أحد تبعات الألفية الجديدة بعد وعود عديدة برخاء سوف يعم البلاد المتعثرة. إنتهى المبلغ الذي زودتني به أمي وما تبقى من راتبي لنهاية الشهر برحلة تسوق واحدة وهى لم تشتري لنفسها أي شيء فقد زهدتني وزهدت مالي وكرماً زائد منها مشاركتي سقفاً وجدران .
أمي تناديها تذكرها بما طلبته منها وحينها أخرجت فدوى شيء ما من إحدى الأكياس العديدة للمشتروات وناولته لها بينما تقول بمرح متخابث بعض الشيء :
- بمبى شفتشي يمكن يرجع الغايب .
- رجعت الميه في زورك يا بعيده .
أمسكت فدوى يد أمي وسحبتها دون إرادة منها بمرحها العنيف وقالت :
- قومي قسيه وريني الحلاوة
قامت أمي عن موضع جلوسها وهي تلعن فدوى وتصفها بالطويلة القبيحة بينما فدوى تضحك ملأ فاها يبدوا أن علاقتها بكل من بالبيت باتت أقوى من علاقتنا إن وجدت . لم تعد تشكوا منها أمي برغم المشاحنات العديدة التى أسمعها بينهما فهذا جزء من الحياة العائلية المستقرة قد أكون غفلت عنه بإنشغالي بالعمل .
إنتهى الصيف وحرارته وأتى الشتاء هذه السنة أبرد من أي فصل عاصرته, ولازالت زوجتي على عنادها . يأتي الشتاء بذكرى مولد الصغيرة فتصرخ بعيد ميلاد مثل قريناتها بالمدرسة ولن تحصل عليه يكفيها دلال, لم أعد أرفض لها مطلبَ منذ الحادث الذى وصمها بمرضها المزمن, يكفي ولكن أصبح لها سلاح أقوى؛ جدتها. قررت الجدة إقامة عيد ميلاد للصغيرة يشملهم فقط ووافقت الصغيرة على مضض. إصطحبتها لإنتقاء هديتها, وهذه السنة لم تنتقي عروس كبيرة برفقة أدوات تجميلها بل إنتقت أدوات تجميل للعروس التى أصبحت عليها ولما أبديت إعتراض ذكرتني بوعدي لها ما تشاء شريطة إرتدائه بالمنزل فردخت. لأدوات التجميل تكملة فستان جديد وحذاء وفستان أخر لا تستطيع إرتدائه لأنه يحتاج لإمرأة وهى ليست فتاة بعد كما تدعي ولازالت طفلة فقلتُ بهدوء :
- ده فستان آنسات كبار يانوننا مش هينفعك
حدجتني بتعجب :
- مش ليَّ يا جلال عشان مامي .. إنت ناسي عيد ميلادها إنت هجيبلها إيه ؟
ذكرى ميلاد فدوى بشهر يناير أيضا ولكن بمنتصفه ..
- نجيبه سوا
- يا ساتر على البخل .. إشتريللها حاجه تانيه .. انت مزعلها على طول
أبتسم للصغيرة مؤيداً وأقول :
- كلامك أوامر يا دكتوره
قالت مستنكرة :
- مش هكون دكتوره يا جلال
- اومال عايزه تبقى إيه ؟
- ballerina
- إشمعنا .. إنت مش أتخانقتوا سوا خلاص وطردتيه من البيت
مارست علي الخبث النسائي وقالت متحيرة كذباً :
- إنت بتكلم على مين .. أأأأأه قصدك مختار عفريت حد يحب عفريت ؟!
إبنتي تركت هاجسها بكريم الدويري وأمسى لها هاجس جديد . هاجس جديد جعلني أتمنى تزوجيها من إبن الدويري اليوم قبل الغد, قبل أن أراها تذهب حياتها في عشق مخلوق سفلي مخنث يستمع للموسيقي الأوبرالية ويعشق إلى جانب هنا بحيرة البجع . أمي تشعر بحضوره في منزلي ولكن ليس في وسعها طرده لأنه مارد قديم قوي تخطى عمره ألآف السنين, ذو هالة سوداء وأمي نورانية مثل هنا وإنجذابه لهنا من المحظورات لأنه يخلط أربعة عوالم؛ عالم البشر والجان , والنورانين و أبناء السواد مثله . أمي تقول أنه ترك الشر وأبناء جلدته لعشق إبنة ملك ملوك الأرآضي السفلية وموتها أعاده للشر ولكن ليس لعشيرته فقد تبرؤوا منه كما تبرأ منهم فأمسى طريد كل العوالم . تبع ما تبقى من رماد معشوقته حتى رأى هنا ونذر نفسه لحمايتها وسهى عن حمايتها منه .
فتاة ببوادر المراهقة تجد مخلوق يبدوا بهي الطلعة قوي البنيان يستظلها بحمايتها أينما ذهبت, يحدثها عن صولاته وجولاته بأرضه و أرضنا, يدير على حاسبها النقال الموسيقى الأبورالية ليتنزع عن رأسها حماقي ولكنها تقدر حماقي كل التقدير حتى إنها هشمت حاسب نقال كلفني الالآف لأنه لم يستجيب لأوامرها وأذاع عليها مراراً وتكراراً أوبرا بحيرة البجع عوضاً -خلاص بقت عادة – لحماقي – لا يعرف مارد الجن أن نساء الأرض أشد صلابة ولا يردخن وإن عشقن خاصة المراهقات العنيفات مثل هنا . سمعنا عراكها معه وطرده من منزلنا وباليوم التالي وبعد ذهاب هنا لمدرستها وجدت أمها حاسبها على حاله بل وأفضل وكأنه خرج من مصنعه للتو يبدوا أنه كان يحاول مصالحتها إنما لم يفلح على ما يبدوا لأن أمي بالأونة الأخيرة لم تعد تشعر بحضوره.
ولكن ذلك المارد يستحق القهر لأنه أبله ببادء الأمر عشق فتاة ليست من عشيرته ونهاية عشق إبنة فدوى, ألم يرى سلوك فدوى يوماً مع زوجها المسكين التي تدعي عشقه ورغم ذلك تسقيه الويلات على مهل ولغلطة واحدة هي من إقترفتها . بأي حال إبتعت للصغيرة هدية تهديها لأمها وعلي الان إبتياع هدية للشمس الغائبة علها تشرق لتذيب ثلوج سفاح الجبال الجاسمة على قلبي كما تشع على كامل البيت وتلزمني أمطارها الرعدية .
لما ولدت هنا إبتعت لها قرط ذهبي بسيط نحته جانباً فدوى وألبستها قرطاً من الألماس كانت ترتديه هي ورثته عن أمها فقررت اليوم إبتياع قرطاً أخر من الألماس وضعت به راتبين بعدما أصبح راتبي لي وتكفلت أمي بالبيت والأولاد كما يفعل أبي مع باقي أخوتي فيما عداي, فإخوتي أطاعوا أبي وعاشوا جميعاً بقصر دمياط كما آمل أبي أما أنا لم ألقي بال لأمال أبي وبقيت بالقاهرة بجانب عملي وأخيراً فدوى .
عدت للمرة الأولى محمل بهدية ماسية لزوجتي التى تركت الألماس والقصور والسيارات الفارهة من أجل حبي علها ترضي. لم أستطيع تسليمها هديتي بنفسي فقد سحبت الصغيرة كافة المشتروات وهرعت لغرفتها لتريهم لأمها و جدتها. لم أبني أمالاً عريضة قد لا تلحظ هديتي أو إلتماسي لعذر نقلته عيوني الآف المرات ولم تراه مرة .
خرجت علي وجلست بالقرب مني وقالت :
- ميرسى على الهديه ما كنش فى داعى تكلف نفسك .. احنا ظروفنا ما تسمحش
تركت جريدة إدعيت تفحصها وحوّلت ناظري نحوها وقلت :
- الظروف كويسه الحمدلله
- ياريت ترّجع الفستان مالوش لازمه انا ما بخرجش
- وأنتي فاكره لو بتخرجي كنت هتلبسيه .. الفستان للبيت إلبسيه في عيد ميلاد هنا
وقامت عن محادثه لم ترقي لجدال, لا أعلم فيمَ غضبها من كل كلمة تخرج من فمي, لابد أن الفستان لم يلاقي إستحسانها لأنها تبغض الألوان الزاهية وتفضل الكاتمة . هل تعلم إن كل الألوان مجرد صفات لا ترقي لرؤية إلا عليها, بالأزرق نهراً هادئ, بالأسود ليلاً ساتر, بالأحمر لم أراها بالأحمر طيلة معرفتي بها لذلك إبتعته لها هذه المرة بمباركة من الصغيرة ولن أراه على الأرجح.
عيد ميلاد هنا أتى متأخر ليومين حتى عودة حسام من كليته, إبتاع لها زينات العيد وبابا نويل يهنأ بسنة جديدة سعيدة وسلسلة ذهبية مجدولة نادرة الوجود بالقطر المصري, رأيتها من قبل في صدر الكلب صديقه؛ مالك.
يجلس أطول الطلاب قامة بأخر الصف وبالرغم من ذلك رأيت بريقها يضوي بصدره فناديته قائلاً :
- قومي يا ماريكا وريني طولك
ضحك باقي الصف وذكروني بلقبه المشهر؛ كلوديا فأردفت :
- ده انت قادر يا صعيدي .. إيه اللي في صدرك يا بابا
أغلق قميصه حتى رقبته فقاطعته :
- إقلعها دلوقتي حالاً .. يا صعيدي .. يا كبير المنشاوية
خلعها على الفور فأردف :
- يا إبني ما يلبس سلاسل غير تلاته .. البنات والكلاب والجماعه قرايبك .. غير إن الدهب حرام للرجال .. أخ نسيت أنت ماريكا
- تحت أمرك يا فندم
- قطعت إسترسالي .. المحاضره إتشرحت
ثم خرجتُ من المدرج تاركاً إياه بين قبضة زملائه الساخطين عليه لأنه تسبب بإنهاء محاضرة هامة, علهم بالمرة القادمة يكملوا له بنود الرجولة بالعسكرية . يعلم الجميع القواعد وكان عليهم نقلها لزميلهم الضال وليس تركه بين الظلام حتى لو بدافع المرح أو الغيرة , غيرة لا تليق بين رجال سوف يكونوا رجال الوطن القادمين, مالك مدلل مرفه لأبعد الحدود وزاد الحد لما بات الطبال الفاشل من أوائل دفعته ومرشح بقوة لبعثة الولايات المتحدة الأمريكية منذ بداية سنته الثانية في الكلية, فالاحمق بالإضافة الى تفوقه الدراسي متفوق عن باقي دفعته بالخصائص الجسدية بل ويعتبر من الطفرات الناردة بالعالم وهذا تحديداً ما يبحث عنه العالم الأول لما أشاعوا عن حاجتهم الشديدة لسرب إستطلاع متعدد الجنسيات موازي لسرب الإستطلاع الأمريكي الجنسية وبالطبع حاجتهم للمميزين بكل شيئ كمثل الطويل. الطويل لا يتوقف عن التذمر دائماً وأبداً, وجائت أولى الإعتراضات على الطعام الذي يقدم للطلاب في الكلية, فقد تقدم بشكوة لمجلس الكلية يطالب بتغيير نوعية الطعام ونالت شكوته التأييد وتبدل الطعام ليومين وكان الطبق الفائز هو البصارة لفوائد النبات المتعددة ومذاقه المستحب ولو للبعض.
حمل الطويل طبقه الذي لا يعرف محتواه وتقدم من طاولة المدرسين وسألني :
- إيه ده يا باشا ؟
- التعيين بتاعك .. انت اتعميت
- أيوه اللي هو إيه يعني ؟
ضحك باقي المدرسين فقلت موضحاً لصعيدي تخرج كل البقول من أراضيهم الجنوبية :
- بصارة يا كلوديا أبوك المنشاوي ما يعرفهاش ؟!
قال بحنق بالغ :
- يا باشا البصارة side dish سلاطه يعني مش main course عشان يبقى غدانا بعد الطحنة اللي بتحطنها هنا
- خلاص نصرفلكوا من بكرة شوكة و سكينه عشان تاكلوها main course.. إعدل لسانك يا طالب وسيب عوجة اللسان للحريم
قال مالك متبرماً :
- يا باشا ده ظلم والله .. انا إفتكرها ملوخية مجمده يمكن الانبوبة خلصت .. والله كنت أجيبلكوا سته من بيتنا
أجابه هذه المرة العميد مصطفى :
- انت يا الواد انت ما بطلتش اعتراضات .. ما تاكل وانت ساكت زي بقيت زمايلك
نظر له الطالب بحنق وقال :
- كله فضل يا باشا .. بس قول للعروسة هتاكلها كل يوم
وكان هذا بسبب تفاخري الدائم بإبنتي الوحيدة المتفوقة على أقرانها صبياناً وفتيات بالدراسة وتكون سنوياً من المتفوقين في مدرستها الأجنبية, فكلما أخطأ طالب من طلابي بمعادلة أو قانون أقارنه بإبنتي الوحيدة التي لو كانت تدرس موادهم لأصبحت أول طيار حربي فتاة بالعالم العربي إن لم تطلبها أمريكا للعمل لديهم وإيداع أسرابهم الإستطلاعية وخلافها بين يداها, لذلك يطلب الطويل العلا ولن يزفر به وكأنني قد أزوج إبنتي الوحيدة, المهندسة رغم أنفي, زهرة المدائن أجمع لأحمق ماجن وكذلك طفرة لا يستطيع ضبط قواه عند أقل نزاع ولكن أجبته بأي حال قائلاً:
- وهتطبخها لأمك بإيديها كمان .. قول لابوك يتقل جيبه في المهر .. العروسة عايزة فيلا في التجمع ومصيف في مارينا وعربية إإإ .. إسمها إيه يا مصطفى ؟
أجابني مصطفى فهو من أقرب المقربين لإبنتي الوحيدة :
- جاجوار
- ليه هجوز الاميرة ديانا
أجابه مصطفى مبتسماً :
- عروستنا أحلى من الاميرة ديانا .. شد حيلك انت بس
- على الله .. وديني لتاكلها كل يوم
أصرفتُ الطويل عن ناظري قبل أن أأمر بغوصه داخل قدراً من البصارة ولكن كبير المعلمين السابق لأني أمسيتُ الحالي طلب من الطالب المشاغب الإنضمام لطاولة المعلمين تقديراً لتفوقه الدراسي وطوله الفارع, وحينها نزلت الريبة بقلب الطويل فهناك طوال للقامة بخلافه وكذلك متفقوين فعلم أن بالأمر خدعة .
جلس الطالب ووضع طبقه أمامه فقال كبير لمعلمين :
- كل يا مالك
- شبعت يا باشا .. ده تاني طبق ورحمة امي
يضحك جمع المدرسين وأنا منهم بعدما شيع مالك أمه اليوم فلازالت على قيد الحياة وهي من توصله لكليته بعد كل إجازة وتقبله على وجنتاه كطفلاً صغير وليس ولدها البالغ طيار المستقبل.
قال كبير المعلمين هازياً :
- يا حبيبي يا إبني يتيم .. الله يرحمها .. زودله يا محمدي .. و نقيله رغيفين مفقعين
قال مالك متوسلاً :
- حرمت يا باشا والله .. هستحمى بالبصارة من هنا و رايح
- يا إبني انا خايف عليك صحتك مش عجباني .. مضيع مجهودك ومجهود زمايلك في الزمالك .. كل يا طالب
نظر كبير المعلمين تجاهي و خاطبني :
- مالك يومه خلص انهارده يقعد في الميس يخلص بصارة انهاردة
حادثة كتلك قد يدخل على إثرها الطالب السوي القوى للمشفى ولكن خارق القوى تناول قدراً كامل من البصارة مع خمسة عشرة رغيف بلا تذمر ولما إنتهى تماماً جلس بين زملائه ليستذكر ما فاته من محاضرات ويقسم أن إبنة اللواء جلال سوف تكون كعكة زفافها مكونة من البصارة بينما الحسام يقسم له بدوره بإنه لن يرى ظفرها ما حيى وإن دفع المنشاوي ثروته ليظفر ولده بالعلا وبالنهاية طلب الحسام مني بأسلوب شديد اللهجة ولكن المقنن ببعض الكياسة أن لا أذكر أي شيء كبيراً كان أو صغير عن إبنتي الوحيدة التي يطاردها الطامعين من مجرد السرد التحفيزي فما حال إن رءاها أحدهم وعلم إنها أميرة دمياط ذو الجمال المستغرب وجوده بالقطر المصري.
إمتثل الأب للإبن هذه المرة ولكن بمرة أخرى وبليلة عيد الميلاد الإبنة الوحيدة سحبتُ حسام من مهمة تعليق الزينات حتى غرفته وسألته من أين له بنقود القلادة :
- أخدتها من مالك بالتقسيط
- هو في حد بيقسط دهب ؟
- مالك مستغني يا بابا .. كان ركنها وانا أخدتها منه
صديقه إبن رجل أعمال ثري يترك لولده المجال لفعل كل شيء على سبيل المؤاخاة بينه وبين ولده وليست قيادته لضروب الحجيم, لكلاً عقله . فرشت المائدة بالحلوى والعصائر بالشتاء ثم خرجت سيدة البيت متألقة بالأحمر كبركانٌ ثائر جارف لكل ما حوله, تعرض جمالها للجميع ماعداي بالطبع, يداها للسماء يتمايل خصرها لليمين والشمال فتلقت الثناء من ولداي, صافرين مهللين مما أغضب الصغيرة بعدما حولت الأضواء عنها, أي أضواء لم أفهم.
وقبل الأغنية المقيتة وتمنى عيد سعيد نظرت الصغيرة لجدتها وقالت :
- هديتك فين ؟
- وانا بنزل يا نوننا عشان أشتري هدايا
- أه بتنزلي تصيعي مع أصحابك وبابي مش بيقولك حاجة خالص وخانقني أنا
لم أتعجب وحيداً من لغة الصغيرة مع جدتها فقد تعجبت فدوى أيضا وقالت للصغيرة بحدة :
- ايه الكلام الـlocal ده يا هنا .. عيب كده
زفرت الصغيرة بضيق وسارعتنا بكلمة جديدة :
- ماشي
إحتدت فدوى أكثر وقالت :
- كمان ماشي .. طب مفيش عيد ميلاد
تدخل حسام لفض النزاع :
- خلاص يا ماما .. انا هفهم هنا إن البنات الحلوين يتكلموا بأدب .. تمام يا بشمهندس
هذه الصفه تعيد علي الماضي دفعة واحدة وحينها صحتُ بحسام :
- يبقى أنت يا حمار اللي مكبر في دماغها موضوع الهندسة
كانت حدة فدوى هذه المرة من نصيبي :
- ما تشتموش أدامها يا جلال .. إنت مش شايف بتكلم إزاى
- حاضر .. إتفضلوا إعملوا العيد ميلاد بتاعكوا خلينا نخلص
إنتهى الحفل المصغر على خير ومن ثم جلسنا لتناول الحلوى . لم تكن الجدة الوحيدة التى لم تجلب هدية لصاحبة العيد فأخيها الأوسط أيضا لم يجلب لها هدية . علاقة هنا بآسر ليس بمتانة علاقتها بحسام فآسر يغار من الصغيرة التى تربت بكنف أبيها وأمها ولا يرفض أبيها لها مطلباً حتى لو بغير إمكانه . لا يقدَّر أو يفهم ما تعاني منه الصغيرة كما يعي حسام ويتعامل مع أخته الصغيرة بكل لين ورقة بينما آسر ينهرها ويسبها وبمرة كاد أن يضربها لولا وجود الأخ الأكبر بينهما بتلك اللحظة, كان سبب العراك أتفه مما يذكر أو يستحس من ناحيته غضب فقد دخلت هنا غرفة أسر بغير وجوده وكان ذلك سبب العراك . بقليل من الأحيان أراه أخاً صالح وأحياناً أخرى يفضل الإبتعاد كما هو الان.
الاسرة بأكملها مجتمعة بالصالون يستمعوا للصغيرة التى تعِد ببطولة جديدة سوف تنتزعها من زميلة لها بالمدرسة تركية المنشأ أما آسر كان منشغل بهاتفه النقال الجديد ولم يبالي بالحلوى والعيد. أنهى مكالمته ثم مال إلى أخيه الأكبر هامساً :
- تراهن أبوك هيزحلقنا إنهارده ؟
- وهو من إمتى زحلقنا ؟!
- خمسين جنيه
تقبل حسام الرهان وراقب مع أخيه عيون رجل تتوق لزوجة ملك يمينه. قمت عن موضعي وسحبت حسام إلى غرفته مجدداً ولما إنتحيتُ به بعيداً عن مرئى الجميع قلت هامساً :
- عايزك تاخد آسر الليله وتسهر مع اصحابك, عرَّفه على الواد الطويل اللى إسمه مالك
- إشمعنى مالك ؟
- عشان كان حمار زيه ولما التفت لمستقبله بقه من اوائل الكليه يمكن يتحمس لما يشوفه
أخرجت من جيبي مائه جنيه وناولتها لحسام بينما أردف :
- عايزكوا تنبسطوا ما تخليش حد يصرف عليكوا
- من امتى الكرم الزياده ده !!
سحبت النقود عند يده وقلتُ :
- لو معاك بلاش
نزع حسام النقود من يدي بلهفة وقال :
- يدوم العز يا ابو هنا
- ابو حسام يا كلب واوعى ترجع سكران زى الليله اياها .. فدوى مش هتنفعك وهرميك فى الشارع
وحل الهدوء على المنزل وحان النظر بتمعن للجميلة بالفستان الأحمر, لا ينقصني غير نوم الصغيرة التى لم تكتفي من الثرثرة بعد إنما أتى موعد النوم اليومي بأي حال حتى لو كان بالغد الإجازة وحينها طلبت من أمي مرافقة هنا للنوم فإعترضت فدوى قائلة :
- انا هنيم هنا
- عايزك فى موضوع مهم
- الصبح
- دلوقتي .. خدي هنا يا ماما
حدجتني بحدة وإنتظرت ما أريده بلا كلمات, لو كان هذا المشهد بالأيام السعيدة لصاحت بي لأعدل أو أبدل من كلماتي الآمرة وذكرتني بأنها زوجتي وليست أحد طلابي وإذ أردتُ طلباً أتلمس طريقي متوسلاً ولكن ولّت الأيام وشرر عيونها متقد على الدوام قبل أن أنبس بكلمة.
- ممكن نتكلم في أوضتنا ؟
زفرت بضيق أحرق وجهي وسارعت بالخطى لغرفة أسكنها وحيداً, جلست على أحد الكرسين ونظرت لي لأسترسل, جلستُ بجانبها وقلتُ :
- إحنا هنفضل بعاد عن بعض لحد إمتى ؟
وكالعادات الأخيرة قامت على الفور وإتجهت للباب للهرب من إلتماسي, إستوفقتها وإحتويت يدها الباردة بيدي وقدتها لكرسيها بينما أقول :
- انا لسه بتكلم يا فيفي
نزعت يدها من يدي وصاحت بي :
- شيلني من حساباتك يا جلال .. بص .. إجوز انت راجل وبصحتك وأكيد الفستان البيئه ده عمل معاك شغل .. هاتها هنا أخدمها بعنيىَّ وغني عليها وسمعها شعرك وبعدين إرميها على طول دراعك لما يتهيألك إنها غلطت وباقي القصه إنت عارفها .. إنت اللي كاتبها
أى دفاع لن يجدي معها فعدت للتوسل :
- طيب تعالي بس .. اقعدي نتكلم يمكن نوصل لحل
عدنا للجلوس فأردفتُ :
- يا فدوى الموقف هززني .. ما كنتش عارف ولا فاهم انا بعمل إيه .. انا لو كنت وصلت ليقين الخيانه كنت قتلتك لكن أنا بثقك فيكي
- لا سيدي متشكره إقتلني زي ما قتلتك لما خنتني مع جربوعه و خلفت منها كمان
- غلطت يا فدوي بس مش لوحدي و برغم من كده من يوم ما رجعتي وانا بحاول أتكلم معاكي لكن إنتي بتصديني
إنتظرتُ إجابتها للحظات عديدة حتى قالت ببرود :
- لاء
لم أفهم ماذا تعني برفض قبل السؤال وطالبت بتوضيح فقالت :
- انا عارفه كويس اوي إنت عايز إيه ومقدرش أديهولك
- يبقي مفيش حل غير الطلاق
لم تهتز للكلمة الناهية وعادت للبرود قائلة :
- وهنا ؟
- هتشوفيها يوم أجازتي
إحتدت قائلة :
- هنا من حقي .. انت عندك ولادك انا ماليش غيرها
- هو ده اللي عندي وعندها .. روحي إسأليها لو عايزه تعيش معاكي خديها
بالكاد وبعد حوارات مضنية و توسلات مهلكة وافقت أن تشاركني الغرفة وكلاً لأجل هنا, لأجل هنا ظلت زوجة لي, لأجل هنا تربي ولداي, لأجل هنا تتحمل أمي فهنا تحتاج لرعاية خاصة كما تعي فدوى بتدبر. في حاجة لثلاثة رجال يبحثوا عنها بالصحاري ويعيدوها للمنزل سالمة وفي طي الكتمان, في حاجة لأمي للتفاسير للحالات المريبة التي تنتابها أحياناً, في حاجة إلي حتى أجبح طموحها في تحرير العالم من الشر كما خيل لها.
ويقولون من لم يحظي بإبنة لم يحظى بأبناء. إبنة شاغلها الشاغل ترويعي وإثارة حنقي بأي طريقة ومن أحدث الطرق حماقي. بالسابق كنت بالكاد أستمع لعبد الحليم حافظ وأردد أغانيه إنما الآن أغني لحماقي فقد إلتصقت كلمات أغانيه برأسي فالصغيرة تسمتع إليه عند الصباح والمساء ومهما توسلت الهدوء لا أجده ببيتي .
أعود من عملي الخامسة عصراً أجد سندي بالحياة يتعارك مع أخته الصغيرة وعندما أسأل عن السبب يقول :
- ده هزار يا بابا
الهزار عند أبنائي رجل طويل عريض أخته صعدت من فوق ظهره وتحاول خنقه برسغها الملتف من حول عنقه وتطلب منه الإستسلام, وقبل الإستسلام يمسك بها هو من أكتافها ويتنزعها عن ظهره ويلقي بها من أمامه فتسقط على ظهرها تأن من الآلم رغم أنه ألقاها على الأريكة وحينها أصيح :
- تكسرها يا حمار
تنهض عن الأريكة ممسكة بظهرها بتألم بكلتا يداها وتقول مدافعة عن أخيه :
- أنا كويسه إحنا كنا بنهزر
- ولما يكسرك و أنا أجبس يبقى الحل إيه ؟!
تقلب عيونها بإستهتار و تجيبني ملولة :
- أوف بقه
- انا مش قولت ما تقوليش أوف دي تاني
لا تأسف على لغتها البعيدة كل البعد عن التهذب بل وترمقني برودة وتعود لغرفتها وتضرب بابها بوجهي. أتحول للسند فيقول مبرراً :
- كانت زهقانة فقلت تطلع غلبها فيَّ أحسن
- في حاجة جديدة حصلت ؟
يحك حسام جبهته وهذا دليل على تحرجه مما ينوي قوله :
- رسمت لموؤاخذه عشيقة حضرتك وإبنك و لولا ستر ربنا شفتهم قبل ماما تشوفهم
- عشيقة حضرتي ؟! حلوة
تهدر ضحكاته بلا حساب بينما يردد متهكماً على أبيه :
- هي حلوة فعلاً .. حاجة مفتخرة
أهم بصفع قفاه وركل مؤخرته ولكن أتراجع باللحظة الأخيرة وأتمالك أعصابي فهناك ما يجب البت به بخلاف تهذيب آل بيتي. أشير له أن يقترب بعدما إبتعد لخطوات لتجنب غضبي القادم وأقول :
- لو عرفت من هنا طريقهم فين العربية القديمة إعتبرتها بتاعتك
- والله من غير ما تقول حضرتك سألتها بتقول ماتعرفش
نال الصفعة والركلة فلا نفع منه بأي حال ثم أعود لغرفتي . تلك أخر طرق تعذيبي من هنا تريني بأحلامي طفلاً لا يتعدى السنة ملقى أرضاً على أطراف حقل ذرة, يصرخ ويبكي بإحتقان , بجانبه طفلا أخر ؛ أبوللو يحاول تهدئته إنما لا يهدأ وبعد ساعات تأتي الأم وترضعه ثم تحمل طفليها لطريق وعر نهاية خيمتها. لم تكن حتى خيمة بل مجموعة من الأقمشية المهترية منتصبة ببوار على عدة عمدان خشبية لا تؤمن أي حماية من أي شيء, لا تؤمن حتى حماية من هواء ثقيل إهتز لعصفه أعمدة الخيمة حتى سقط أكبرهم على رأس الطفل ففجره.
أصحو فزعاً من فظاعة ما رأيت, أمسح ما تفصد عن جبهتي من عرق, أكفكف عن وجهي دموع الرثاء أجدها دماء وأشلاء تناثرت على وجهي وإلتصقت بيداي. أنتفض عن سريري وأطالع المرآة أجدني عاري تماماً ولا يغطيني إلا الدماء وبقايا دماغية متفجرة. أصرخ أسأل الله المغفرة أسأل هنا الصفح وحينها تحين قيامتي فقد زلزلت الأرض من تحتي وسقطتُ ببئر قعير تسحبني جاذبته بسرعة كبيرة لنار موقدة . ألسنة من اللهب صهدها أحرق جلدي حتى التفحم فتساقط عن جسدي وظهرت عظامي التي في طريقها للذوبان كذلك . أتلاشى أتحول لأدخنة شواء كريهة الرائحة تتأذى لها أنفي التي ذهبت مع باقي جسدي .
يد بيضاء مطلية أظافرها بالأخضر تستطيل حتى تصل ليدي التي تلاشت كذلك ولكن أجد نفسي أتمسك بها بكل قواي لأخرج من الجحيم .
صاحب اليد يصرخ بي قائلاً :
- يا بابي إيدي بتوجعني .. سيب إيدي
ثم ولداي يجذباني عن هنا الممسك برسخها بكل قوتي وتبكي وتطلب أمها التي ترمقني ببرود وتقول :
- مستعدة تموتها عشان تعرف طريق عشيقتك فين ..لا حنين فعلاً
أنظر لجسدي أجده مغطى بنفس المنامة التي إرتديها عند عودتي من عملي لا دماء ولا أشلاء فقط نظرات ولداي المتحيرة ونظرات فدوى المزدرية وأظافر هنا المطلية بالأخضر .
أقول مشدوهاً لما حدث لي :
- أنا مش عارف إيه اللي جابني عندها أصلاً
- والله ؟! انا ولا يهمني أصلا .. انا هِنا عشان بنت و بس .. عايز عشيقتك وإبنك دوّر عليهم بعيد عن بنتي .. وأوعى ترجع على هنا تاني عشان ده بيتي .. إطلع بره
أحاول أن أبرر لها ما حدث تصيح بي مجدداً بالطرد من غرفة إبنتي فأمتثل بالطبع فقد كنا ليلاً و الناس نيام و فضائح بيت جلال لا تنام . أخرج مع ولداي للردهة أجدهما لازالا يرمقاني بتعجب ثم تقدم السند وقال :
- هنا ما بتعملش حاجة عافية .. كنت إتكلمت معاها بالراحة
ثم آسر يعود للماديات كعادته :
- حقيقي البيت مكتوب بإسم فدوى ؟
- أسكت يا حمار
- تبقى حضرتك كاتبه بإسمها وهترمينا في الشارع
- خشوا ناموا
ينفضا من حولي وحينها أعود لهنا أم لهناوة أجد هناوة أشد قرباً فأتوجه إليها, نائمة قريرة العين الحادث الأخير لم يتنزعها من أحلامها . أناديها برفق تصحوا من خامس نداء وتنظر لي ملولة وتجيبني قبل سؤال :
- مش هنا يا جلال .. ده ضميرك .. كنت إسأل الصبح لازم تقلقني
- ضميري هيمشيني وانا نايم
تعدل عن نومتها جلوساً و تقول متعجبة :
- نايم إيه يا إبني .. إحنا شفناك خارج من أوضتك .. سلمت علينا ودخلت لهنا تمسي عليها وقعدت معاها ترغوا و تضحكوا ساعات لحد ما نمنا
وحينها أعود لهنا ولكن أمها لي بالمرصاد, معها بغرفتها شفاها مقلبوبة عيونها تجلدني فأقول مازحاً :
- ما هي فلوسي برضه .. يعني مين اللي جابلك العيادة اللي إشتريتي بيها الأرض
- هه .. هه .. هه .. دمك خفيف
- بعد إذنك عايز هنا
- روح نام يا جلال أحسنلك
- انا عايزه أتكلم مع بابي يا مامي
- كده يا هنا .. خليه يكلك المره دي
ثم تذهب غاضبة على كلانا وتصفق الباب من خلفها بقوة خلخلته .
- تعالي يا جلال .. انت طلعت خفيف أوي
أتقدم من قاتلتي وأقول :
- يعني عارفه اللي حصل .. انتي اللي عملتي فيا كل ده ؟!
- انت نسيت كل حاجة ؟
- مش فاكر غير الحلم
لم يكن حلم فقد سافرنا سوياً لبلاد لم تراها هنا لذلك إصطحبني معها في رحلة لأستدل على الطريق. كنا نبحث سوياً عن ولدي الذي لم أراه إلا بأحلامي ولكن بمنتصف الطريق أبى عقلي الباطن إكمال الرحلة فأنا ورغم كل ما يحدث حولي من غرائب أشعر إنني أعيش بكابوس طويل وإنتظر صباح يتنزعني من تلك الحياة لحياة مستقرة أجد بها إبنتي إبنة طبيعية. الذنب دعم حالة النكران التي أعيشها فأنا لم يأتي بمخيلتي أبداً أن تكن لي عشيقة أو إبن زنا ولا أعلم بأي أرضاً هو. خوفي من العاقبة أنهي الرحلة لما تبؤأت موضعي بالجحيم جزاء خطيئتي وهنا من إنتزعتي من عذابات جهنم من نسج خيالي .
أنظر لها وأقول :
- ما كنش حلم يا هنا .. كان حقيقة كنت حاسس بكل حاجة .. بكل ألم
تكشف عن باطن رسغها أجد به شقٍ طولي ينزح عنه الدماء وحينها أضربها على رأسها وأقول غاضباً :
- بتجرحي نفسك تاني يا غبية
تتحس موضع الضربه بألم وتقول :
- ده عشان نسافر سوا .. انت كمان إيدك فيها جرح
أكشف عن رسخي كم بيجامتي أجد نفس الجرح الطولي والدماء تنزح عنه كذلك وحينها أمسك بأذنها مأدباً وأقول :
- بتسحري لأبوكي يا هنا كله ده عشان أمك
- يا بابي إنت اللي جيتلي هنا وقعدت تتحايل عليا عشان أشوفلك البيبي فين
- ما عدتش بيبي يا هنا الطفل ده أكبر منك بتمن شهور
- بس انا بشوفه بيبي .. حاولت أنا وإنتي ندور عليه معرفناش .. في حد مخبيه .. حد شرير جداً طاقته ضلمة
- مفيش غيرها أم سيسكا
- لاء انا إتاكدت إنها ماتت وماتت موته بشعة حتى قرينها فارق جسمها قبل موتها من الألم
- يعني انتي يا قادرة مش عارفه توصلي لحته عيل .. ما انتي جيبتي على من تحت البحر
- اه والله ..بس ممكن نستعين بصديق
- إنسي يا روح أمك
- خلاص إنت حر
أعود لهدوئي معها وأقول موضحاً :
- يا هنا مختار ده مش مننا .. يا حبيبتي هو لإما إبن الدوريري لإما جني .. معندكيش حل وسط
- انا عادي على فكرة هو اللي بيموت فيا
يذهب عني الهدوء و أصيح بها :
- هو مش عادي .. هو مش عادي .. جدتك بتقول انه طالع نازل يدوّر علي حد
تكمل لي بسعادة مطلقة :
- يحوله بني أدم وعشان يتحول لازم رماد وانا الرماد وهو بيحبني جداً وما يقدرش يأذيني ونقدر نستخدمه ونعرف مكان البيبي
أصفعها مجدداً على وجهها ثم أقول :
- خلاص يا هنا مش عايز أعرف . . مسير الحي يتلاقى
ثم يخرج أبي من غرفة نومي حانقً علي بدوره ويتنازل عن المعرفة ولكنني لا أتنازل عنه و أناديه ليعود فقد إشتقت إليه منذ طردته .
- مختار
تظلم الغرفة والعالم أجمع, يتمثل أمامي بريق ونور من الأزرق الآخاذ يضيئ العالم بعد عتمة, يبتسم فرحاً لندائي له بالعودة ولكنه المخطأ لم يكن عليه مقارنة حبي له بحبي لحماقي. يقترب من سريري الجالسة عليه ورأسه تميل ليرى عيناي فقد إشتاق إلي كما إشتقت له . تتسع إبتسامته ولكن إبتسامة معشرهم لازالت تخفيني وهو متصل بعقلي وأفكاري ويقرأ جزع عيناي لإبتسامة تقسم وجهه شطرين عرضياً من الإذن للأذن وحينها تعود إبتسامته للسواء البشري ويجيبني :
- نعم يا هنا
- انت ليه مش عايز تقوله على مكانه ؟
- غير مصرح لي
- عارف لو بقيت بني أدم انت بس اللي تقدر تقول أو ما تقولش .. انت عارف في فيلم أسمه سيتي أوف إنجلز كان البطل زيك وأتحول
يقول متهكماً على أفلامي :
- تحول بقفزة
أنهض عن سرير وأتوجه إليه يبتعد عني فهو يراني طفلة نورانية ومساسنا يمزج العوالم ولكنني لا أستسلم و أقول :
- ما تيجي نجرب ؟
- نجرب موتك ؟
- انت عايز ؟
- عايز
- عشاني ؟
- عشانك
- بوسني ؟
يبتسم ولا يقدم على شيء فأقول متبرمة :
- مش هتبوسني ؟
يومئ بالرفض فأردف :
- طيب .. هو انا لما أكبر هبقى حلوة ؟
- هتبقي أحلى البنات
- طب انت بتحبني عشان أنا هنا ولا عشان منها ؟
- انت مش من حد يا هنا .. الرماد إختارك لكن ما صنعكيش .. إختارك لمهمة محدش عارف إيه هي
- عشان أحكم مكانها
- مش هيحصل طول ما أنا على وش الدنيا
- انت مش على وش الدنيا إنت تحتها
- كل واحد شايف دنيته من ناحيته
- و أنا ؟
- إنتي دنيتي
أبتعد عنه و أجلس على كرسي مكتبي وأقول آملة بالمستحيل :
- كان نفسي أبقى كبيرة عشان أجوزك
- مفيس إنسية بتجوز جن
- لا فيه
- ضحكوا عليكوا عشان يملوا فراغكوا بالهواجس و يشغلوكوا عن العمل وأعمالهم
أكره يأسه وإستسلامه للواقع كما كافة الرجال ولو من الجن, أخرج من درج مكتبي مقصاً أقص به خصلة من شعري لعكس نظريته , أضع الخصلة أمامه و أمامي وأقول :
- نحرقها تبقى رماد ونقول التعويذة سوا
- وبعد الرماد لازم وعاء .. يكون قريب منك عشان أقدر أوصلك
- هنقتل ؟
- هننقل .. هننقذ كائن معذب أنا أسكنه و أبدل حياته
- وإفرض نسيتني ؟ انت هتحتفظ بكل شيء في البني آدم الجديد اللي هتتحوله حتى ذاكرته
- هفتكر يا هنا
- طيب نجرب ولع في الخصلة وبعدين ندور على الوعاء
يشير تجاه خصلتي بسبابته الطويلة للغاية الموضوعة فيمسها حريق طفيف على أثره تجمع الراغبين بالتحول من شتى طوائف الجان, ملئوا الغرفة وبدأ بينهم التزاحم و الصراع ليصلوا لبغيتهم, لا يمنعهم شيئاً عن الرماد وعني إلا هالة زرقاء صنعها مختار من حولي . قصاراً وطوال كثيفي الشعر وصلعان قبيحون وقبيحون كذلك فمختار أجملهم. يقروا التعاويذ لفض الهالة الزرقاء ولا يفلحوا وعند النهاية عند تحول خصلتي للرماد آدمي أسود فاحم وليس الرماد الأزرق المنشود ينفضوا يائسين واحد تلو الأخر كما إنفضى حلمي لتحول مختار لآدمي وحينها أصيح بحزن :
- ليه
- عشان قلبك إتلوث .. بتسمعلها يا هنا ..و لسه بتساعديها.
أنت تقرأ
مارد من الإنس
Fantastiqueتتناول الرواية رحال شاب قاهري, نشأ في بيئة مترفة, ولد لرجل أعمال ناجح من أصول صعيدية عريقة, الشاب يدعى مالك يهوى الموسيقى والغناء حتى أنه حاول إمتهانهما والإنتساب لمعهد الموسيقى العربية ولكن رفض الأب بشدة فهو إستنكر أن ينبت مطرب من بين عائلته العري...