الفصل الثاني

261 14 0
                                    









اقترب السيد جورج من الباب خلفه جون قلبه ينبض في اضطراب وترقب، نظر جون من فوق كتف السيد جورج ليجد الغرفة مرتبة كما تركها آخر مرة، وجد صينية الطعام التي حضرها لوالدته موضوعه بعناية على الطاولة في ركن الغرفة لم تمس، ووجد والدته جالسةً على السرير في هدوء مريب تنظر إلى أسفل، يتدلى شعرها الاحمر على وجهها مخفياً وجهاً ناصع البياض، وعينان زرقاوتان، تقدم السيد جورج بداخل الغرفة بخطىً ثابته يتبعه جون وفي قلبه الكثير من المشاعر المختلطة، الخوف، الترقب والاندهاش مما يرى، قال السيد جورج في هدوءٍ وثقة :" مرحباً، سيدة ليلي "عندها رفعت السيدة ليلي رأسها إلى أعلى، نظرت مباشرةً إلى عيني جون، تغيرت ملامح وجهها بشكل غريب، تحولت عيناها فجأة للون الأحمر الدموي قبل أن تفتح فمها واسعاً مطلقةً صرخةً مدوية ردت أصداؤها في الغرفة بضع مرات، عندها انقطعت الانوار، وشعر جون بالأرض تهتز من حوله، ثم شعر بأن الغرفة تدور في حلقات وكأنما التقطها اعصار كبير، ماذا يحدُث؟ ازدادت حدة الصيحات وازدادت معها نبضات قلب جون، يشعر بالدوار، لا يرَ شيئاً لكنه يشعر بالكثير من الاهتزازات، ويسمع الكثير من الاصوات من حوله، أضاءت الأنوار من جديد، هذه المرة يرى جون والدته تطفو في الهواء، تنظر إليه بعيناها الحمراوتين بشكل مخيف، لا يرَ أي أحد آخر في الغرفة، صاح جون في محاولاتٍ يائسة للتهدئة من روعه : " اهدأي يا أمي، هذا انا، جون "ارتفع صوت صراخها من جديد، وانقطعت الانوار مرة اخرى، ارتفع صوته ينادي على السيد جورج وعلى أخيه، لكن لا يعلو صوته على صوت صراخ والدته، يشعر بالكثير من الايدي تجري على جسده، " من هناك ؟ " صرخ جون في ذعر لكنه لا يسمع سوى صوت الصراخ الذي يتزايد ويعلو شيئاً فشيئاً، شعر بسائل لزج ثقيل يسيل من أذنيه، انه ينزف من حدةِ الصوت، وضع يديه على أذنيه في محاولات يائسة لتفادي الصراخ، ازدادت الأيدي التي تجري على جسده، بدأت تجذبه وتدفعه فوقع على الأرض محدثاً صوت ارتطام مرتفع، يشعر بالدماء تُمتص من جسده، وكأن شيئاً يسحب روحه، يشعر بالغرفة تدور وتدور من حوله، حاول أن يعاود الوقوف إلى قدميه لكنه لا يلبث أن يقف حتى يعاود السقوط، دفع بركبتيه إلى صدره محاولاً حماية نفسه، يشعر بضيق في التنفس، قلبه ينبض في اضطراب وخوف، لا يرَ شيئاً، لا يسمع سوى صوت الصراخ الذي لا يتوقف.. ولكن فجأة توقف كل شئ، توقف الصراخ، توقفت الأيدي التي تجذبه، توقف النزيف، فتح جون عينيه ببطء فإذا به يرى ظلاماً مريعاً، يمتد عن يمينه وعن يساره إلى ما لا يرَ له نهاية، دفع جسده بيديه ليقف إلى قدميه الواهنتين المرتعشتين واللتان تحملانه بصعوبه.. ( أين أنا؟ ما هذا المكان؟ ) دارت الأسئلة في ذهنه، أخذ بضع خطواتٍ قبل أن ينادي بصوت مرتفع دوى صداه في المكان والذي يبدو بأنه أكبر بكثير من تلك الغرفة الصغيرة في الدور العلوي للمنزل : " هل من أحد هنا؟ جوناس؟ سيد جورج؟ أمي؟.. "تقدم بضع خطواتٍ إلى الأمام، فوجد نقطة صغيرة من الضوء ليست ببعيدة جداً، صاح بصوت مرتفع مرةً أخرى : " من هناك؟ " لكنه لم يلق اجابة.اقترب جون من مصدر الضوء شيئاً فشيئاً وبحذر شديد، فإذا به يرَ سيدةً جميلة رشيقة القوام في رداءٍ ابيض لامع، تستدير وتنظر له نظرةً تملؤها الحنان، يختال شعرها الأحمر على كتفيها كما تختال أوراق الأشجار التي يضربها النسيم، قال جون بصوت متوتر خائف : " أمي؟ ماذا تفعلين هنا؟ وما هذا المكان؟ "- " جون، أنا اسفة على كل شئ، اسفة على ما فعلته بكما أنت وأخاك طوال هذه الفترة "- " امي لا تعتذري، لقد قلقنا عليكِ كثيراً "- " لا تقلق يا بني، انا بافضل حال "- " لكنك لا تتناولين الطعام الذي اعده لك، ولم تغادري غرفتك منذ ثلاثة ايام، وغالبا ما تجلسين وحدك في تلك الغرفة لفترات طويلة ... "قاطعته السيدة ليلي بصوت مخيف، بارد، محشرج : " لكنني لست وحدي "عندها ظهر ضباب اسود كبير من خلف السيدة ليلي، بين الضباب تطفو عينان حمراوتان تقتربان منه شيئاً فشيئاً، تراجع جون إلى الخلف بخطوات سريعة مترددة قبل أن يسقط على الأرض مصدراً صوت تهشم غريب، وكأنما وقع على بعض الخشب الرقيق، حدق في العينين الحمراوتين بينما تقتربان منه ببطء، ويتزايد مع اقترابهما خوفه بينما يحاوطهما الضباب حتى ابتلع والدته التي بدأت تصرخ من جديد، حاول جون النهوض لكنه لم يستطع، شعر بأنه قد وقع في بحر من الرمال، نظر إلى أسفل ليجد الكثير من العظام التي تتهشم ما ان يخطو عليها، صرخ جون صرخةً يملؤها الرعب، وعاثر لكي ينهض ثم بدأ في الركض على العظام بصعوبه، نظر خلفه ليجد العينان تقتربان منه، يزداد حولها الظلام ويرتفع معها نبضات قلبه، حتى تعثر وسط العظام، شعر بيد رفيعة تمسك قدمه بقوة، صرخ في ذعر، حاول أن يهرب، دفع تلك اليد بعيدا وحاول النهوض لكن سرعان ما احاطت به الأيدي وتشابكت من حوله وأخذت تجذبه داخل العظام حتى ابتلعه بحر العظام تماما، بدأ يصرخ، وقد علا صراخه على صوت صراخ والدته، هل هذه هي النهاية؟ التف جون حول نفسه يدفع ركبتيه إلى صدره مرةً أخرى وهو يشعر بتلك الأيدي الرفيعة تلتف على جسده وتجذبه لأسفل، يشعر بأنفاس غريبة تقترب من وجهه، يسمع كلمات غريبة لا يفهمها، أصوات لا يميزها، صراخ مرتفع يعرفه جيداً، هذا صوت صراخ والدته، ثم شعر بهدوء غريب، مازالت تلك الأيدي تتحرك على جسده، تجذبه وتدفعه، تمسك بخصره، بيديه وبقدميه، هذه الأصوات الغريبة تقترب شيئاً فشيئاً، أصوات كثيرة ترتفع وتتشابك كالسحاب، أغمض جون عينيه وتمنى أن ينتهي كل هذا، وأنه لم يدخل هذه الغرفة مع السيد جورج في البداية، بدأت ذكريات جون تجري أمام عينيه، كل ما مر به، خيراً وشراً، كل ذكرياته السعيدة والسيئة، يشعر بضيق في التنفس، وبألم شديد في رأسه، تمنى لو ينتهي كل هذا.." جون؟ جون؟ هل أنت بخير؟ جون؟ " .. فتح جون عينيه ببطء، كل شئ يبدو ضبابياً، لا يستطيع تمييز الاشياء، لكنه يسمع صوتاً مألوفاً يقول : " هل أنت بخير؟ "بدأت عيناه تعتاد النور، نظر إلى أعلى فإذا بالسيد جورج يميل إلى أسفل ينظر إليه وعلى وجهه علامات القلق." ماذا حدث ؟ " سأل جون بصوت مرهق، متقطع يملؤه الخوف..- " لقد أغشي عليك " أجابه جورج وهو يحاول مساعدته على الوقوف- " كيف .. كيف حدث هذا؟ "- " ليس عندي فكرة، هل تناولت فطورك اليوم؟ "- " لا .. لم أتناول شيئاً اليوم " رد جون وهو يقوم إلى قدميه الواهنتين..- " ربما يكون هذا هو سبب ضعفك .. "- " كيف هي أمي ؟ "- " بأفضل حال.. لقد أعطيتها بعض الأقراص المهدئة، انها نائمة الان .. "وجد جون صعوبةً بالغة في النهوض، واتكأ على كتف السيد جورج وهبطا معاً إلى غرفة الجلوس قبل أن يرتمي بجسده إلى كرسيه المريح ويتنفس بعمق.." هل أنت بخير ؟ " قال السيد جورج- " نعم .. نعم بأفضل حال شكراً لك "- " سأترك لك قرصاً من الدواء كذلك، يحتوي على بعض البروتينات، لا تنسَ أن تتناول شيئاً اليوم قبل أن تبذل أي مجهود "- " شكراً لك يا سيد جورج "- " سأعود بعد حوالي يومين لأطمئن على السيدة ليلي، في هذه الأثناء أريدك أن تعتني بها جيداً، وأن تواظب معها على ذلك الدواء " قال السيد جورج وهو يقطع ورقة صغيرة من الكتيب ويضعها على الطاولة في منتصف الغرفة.- " بالطبع سأفعل "- " أراك لاحقاً اذاً "غادر السيد جورج تاركاً جون غارقاً في أفكاره، أيعقل أن يكون هذا حلماً؟ لقد بدا كل شئ حقيقياً جداً، ذلك الدوار، هذه الايدي التي كانت تجري على جسده، حاول أن يستعيد ما حدث، تلك العينان الحمراوتان، وتلك اليد التي امسكت بقدمه، لقد كانت قبضةً محكمة وقد شعر بها بالفعل، نظر جون إلى قدمه أسفل السروال ليجد أثراً لخمس أصابع طويلة رفيعة حول قدمه، شعر بالذعر، لا يدري ان كان هذا حقيقياً ام خيالاً، وان كان حقيقة.. أكانت هذه حقا والدته؟ وما كانت هاتان العينان الحمراوتان؟ ..

التوأمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن