استيقظ جون على صوت زقزقة العصافير بالخارج، بعد أن غط في نومٍ عميق على ذلك الكرسي المواجه للباب الأمامي، نظر إلى ساعته فإذا بها التاسعة والنصف.." لقد فقدت الوعي لفترةٍ طويلة " سمع جون صوتاً مألوفاً يأتي من خلفه، ثم استمر ذلك الصوت بالحديث : " ماذا حدث هناك، بالأمس؟"
- "ماذا تعني ؟.."
- "أنت تعلم ما أعني.. هل توقفت عن أخذ دوائك مجدداً؟" رد جون على أخاه وهو يشعر بصداع شديد يضرب في رأسه كذلك العصفور الصغير الذي يطرق بمنقاره على نافذةِ المنزل كل يوم، فقال بصعوبة : " أنا .. أنا لا أدري عما تتحدث يا جوناس .. "
قال جوناس بصوتٍ هادئ يكتم غضبه : " لا يمكنك خداعي يا جون .. أنت تعلم جيداً ما يحدث عندما تتوقف عن أخذ هذا الدواء، وهذه ليست المرة الأولى التي .... "
رد جون بغضب وهو يدفع جسده الواهن إلى أعلى بعيداً عن الكرسي ويسير تجاه الباب المؤدي إلى غرفته : " التي أفقد فيها عقلي.. أهذا ما كنت ستقوله؟ هيا أنا أعلم جيداً ما يدور في رأسك يا أخي .. لربما أخبرت ذلك الطبيب بأنني أنا المريض وليست والدتك "
نظر جوناس إلى أخيه، الذي تتزحزح قدمه قليلاً قليلاً في ضعف، وقال : " أخي، أنت تعلم أنه بعد وفاة أبي وأنت أقرب شخص لي، لا أستطيع أن أفقدك كما فقدته .. "
- " أعلم، حسناً؟ تقول لي هذا كل يوم، ألا تمَل أبداً من تكرار تلك الكلمات؟ قلت لك أنا لا أحتاج ذلك الدواء، أنا لست مختلاً، لم ولن يحدث شئٌ أبداً إذا توقفت عنه "
- " لكن الطبيب قال ... "
- " الطبيب لا يشعر بما يفعله هذا الدواء بي.. هذا ليس علاجاً هذا سم.. وأنا لا أريده، حسنا؟ .. لا أريده "
قال جون هذه الكلمات قبل أن يغلق باب غرفته بقوه مصدراً صوتاً مدوياً في أرجاء غرفة الجلوس والتي وقف فيها جوناس وحيداً يفكر في حالةِ أخيه التي تسوء كلما مرت الايام، هذه ليست المرة الأولى التي يفقد فيها جون الوعي ويبدأ في التشنج والارتعاش، وبالرغم من أن حالته كانت مستقره عندما واظب على أخذ ذلك الدواء الذي نصحه به الطبيب، إلا أنه الآن يرفض أن يأخذه.. جلس جوناس إلى كرسي أخيه المفضل بمواجهة باب غرفته، وتأمل أحداث الأمس ببطء، هل سيستطيع السيد جورج حقاً أن يعالج والدتهما؟ وهل ينبغي عليه أن يخبره بحالة أخيه كذلك؟..
( كل هذه الضغوطات، كل هذا التفكير، لا أستطيع أن أفعل هذا .. لا أستطيع أن أفعل هذا حقاً، لماذا تركتنا يا أبي؟ لماذا كان عليك أن ترحل الآن؟ أتمنى لو أستطيع أن أعود بالزمن وأمنعك من تكرار هذه الحادثه، أتمنى لو لم نذهب إلى هذا المكان قط ... )
اتكأ جون بظهره على الكرسي ووضع رأسه على ظهر الكرسي المريح، يحتاج إلى الراحة التي لم يذقها منذ شهور، يحتاج إلى أن يغط في نومٍ عميق دون أن توقظه الكوابيس، تلك الكوابيس التي لا تتوقف، التفكير الذي لا ينقطع، تلك الذكريات التي تطارده في أحلامه، هذه الرؤى التي تراوده بين الحين والآخر، هل هو أيضاً مريض؟ هل هو أيضاً يحتاج للدواء كما يحتاج إليه أخاه؟.. أغمض عينيه المرهقتين، سرعان ما شعر وكأنه يطير في الفضاء، جسده خفيف جداً، لا يشعر بشئ، هذا الاحساس الرائع بعدم وجود مسؤوليات أو متطلبات، هذا الشعور بأنك بعيدٌ عن كل الهموم، بعيد عن كل ما يضايقك، هذا الشعور بالفراغ، بالحرية، والسلام الداخلي، وكأنه الوحيد المتبقي على الأرض، هذا الشعور الذي لطالما تمنى جوناس أن يشعر به، أن تراوده تلك الأفكار، أن تعزله أحلامه عن العالم الخارجي، لطالما تمنى أن يكون كأخيه، فاقد للحس، فاقد للمسؤوليات، لا يطلب منه أحد شيئاً، ولا يطلب هو شئٌ من أحد، لطالما تمنى أن يأخذه عقله إلى عوالم أخرى تنتظر أن تُكتشف، لطالما تمنى أن يمتلك مهارةً أو موهبةً يهرع إليها حين تتراكم عليه الهموم وينطفئ نور الشغف في قلبه، فيضيؤه من جديد بممارسة ما يحب، لطالما تمنى أن يكون الأخ المدلل الذي تلقى رعايةً خاصةً من والدته، لطالما تمنى انتهاء ذلك العمل المرهق مع والده في الصباح الباكر، ولربما هذا العمل وهذه الأيام الخوالي مع والده هي التي صقلت شخصيته، حولته إلى شخص مُفكر لا مُبدع، شخص لا يؤمن بوجود الخرافات، لا يؤمن إلا بالمنطق، قواعد الفيزياء، المعادلات الرياضية المعقدة التي لطالما أصابته بالذهول عندما تَحدث عنها والده أمامه، هذا العلم الذي يملأ عقله، هذا المنطق الذي يحكم تصرفاته وحركاته، هذه التناقضات الكثيرة بين ما أراد أن يكون وما تحول إليه؛ لا يستطيع أن يُنكر هذا الشعور بالانتشاء الفكري عندما يتوصل ووالده إلى حل معادلةٍ صعبة أو إلى اكتشاف جديد مذهل، لكنه لا يستطيع أن يتذكر كذلك المرة الأخيرة التي أخذه والده فيها إلى الحديقة ليلعب كما فعلت والدته مع أخيه، لا يتذكر متى كانت المرة الأخيرة التي اشترى له والده فيها دميةً أو لعبة، لا يتذكر المرة الأخيرة التي عاش فيها طفولته كما فعل باقي الأطفال..كان جوناس شديد القرب من والده، لذلك كان أكثر من سيطر عليه الحزن والصدمة عندما توفي؛ في حوالي سن الحادية عشرة أخذه والده إلى ذلك المعمل الذي يعمل فيه أعلى تلك التلة القريبة، فقد كان والده مهندساً فلكياً، ومُدرساً بجامعةِ نوتينهام، كان السيد بيتر شغوفاً بالعلم، ولطالما أراد من جوناس أن يستزيد بذلك العلم، وأن ينقله بدوره لابنه، وتستمر الدائرة إلى الابد، فيبقى العِلم محلقاً ومعه شهرة واسم هذه العائلة، فكان يأخذه معه أحياناً إلى العمل، ويشرح له الكثير من التجارب، ويتحدث معه عن الكواكب ومداراتها وكيف تتحرك، وعن قوانين الفيزياء كالجاذبية وغيرها، وكان جوناس يحب ذلك الشعور بالاهتمام من والده الذي لا يتردد كثيراً على المنزل بسبب ظروف عمله، فكان يقضي معه وقتاً طويلاً في المعمل، وبالرغم من أنه بالفعل كان يستمتع بمشاهدة النجوم من خلال ذلك المنظار الكبير، إلا أنه شعر تدريجياً بأن طفولته تُقتل، شعر بأنه لا يفعل ما يريد دائماً، كان يخشى أن يعبر عن ذلك الشعور لوالده خوفاً على مشاعره، لكنه حقاً لم يحب أن يقضي معظم أوقاته في ذلك المعمل البارد، أراد أحياناً الانطلاق واكتشاف العالم من حوله، كانت دائماً ما تراوده أحلامٌ بأنه صعد إلى هذه الكواكب والنجوم واستطاع بالفعل أن يلمسها ويقف عليها، كثيراً ما شعر بأنه يريد أن يتوقف عند هذا الحد من الفيزياء، وأن يبدأ في اكتشاف مواهب اخرى، هوايات اخرى، شئ يجذبه بعيدا عن كل هذه المعادلات..
أنت تقرأ
التوأم
Mystery / Thrillerأخوان يعيشان مع والدتهما في بيت صغير على حدود مدينة نوتينجهام الانجليزيه.. يبدأ الأخوين بملاحظة أشياء غريبة تحدث حولهما بعد أن أصيبت والدتهما بمرض غريب أطرحها الفراش ليكتشفا لاحقاً سراً مظلماً يطاردهما من الماضي..