5 - عاصفة العقل والقلب

858 27 0
                                    

عاصفة العقل والقلب

شعرت مادلين في السيارة بالأسف على إنتهاء الأمسية ، وقد إستمتعت بها كثيرا ، وكان الإفتراق عن نيكولاس يبدو لها مثل فراقها عن جزء من نفسها ، ووجدت ديانا لا تزال مستيقظة ، تجلس في فراشها تقرأ وأخبرتها ديانا في شبه إتهام انها إكتشفت بقاءها في السيارة نحو عشر دقائق ، وسألتها مادلين عن رايها فيه فقالت إنها لم تستطع الحكم عليه ، وهنا أخبرتها بدعوته ، فقالت ديانا بعد تردد:
" حسنا ، ولكن لا تتوقعي مني ان أطرب له دائما ، فالأرجح أنه يسلّي نفسه على حسابنا".
وأحست مادلين بأن ديانا تحاول عمدا معاداتها ، ولما كانت تعرف إبنتها خطر لها أن ديانا تامل في خلق المتاعب بإستجابتها الى الدعوة.
وفي يوم الأربعاء وجدت مادلين من المستحيل تقريبا أن تركز ذهنها على عملها ، فإتصلت بنيكولاس تلفونيا خلال إستراحة تناول القهوة في الصباح ، وأبلغته بموافقة ديانا وبمخاوفها لكنه ضحك منها وطلب ان تتركها له.
منتديات ليلاس
وصل نيكولاس في السابعة والربع مساء ، وهو يرتدي بذلة زرقاء أنيقة ، وإصطحبهما الى الفندق ثم الى جناحه مباشرة ، وكانت مادلين ترتدي فستانا من الجرسيه الأخضر ، وديانا ثوبا من التيل الوردي ، وتولى تقديمهما الى إبنته ماريا ، التي كانت ترتدي بذلة من القطيفة الكحلية ، وترفع شعرها الطويل على شكل كورونات حول أذنيها ، وكانت تبدومختلفة كثيرا عن الفتاة الشابة غير المسؤولة التي تحدث عنها نيكولاس ، كما بدت لديانا على غير ما كانت تتوقع ، وكان الجو مكهربا ، وأدركت مادلين أن ذلك ما تتصوره فقط ، ولكن وجود ديانا كان بمثابة نوع من الدراما الحادة ، وتمنت ان تبدو ديانا هادئة الأعصاب مثلما يبدو نيكولاس وماريا.
وتناولا بعض الشراب ، وقالت ماريا أنها تحب لندن ، وانها زارتها مرارا وتود أن تعيش فيها بعض الوقت على الأقل ، فقال ابوها مداعبا:
" لا بد ان تتزوجي رجلا أنكليزيا".
فهزت ماريا راسها وقالت بتأمل:
" اعتقد انني ساتزوج إيطاليا ، الإيطالي رشيق جدا ، ألا تعتقدين ذلك سيدة سكوت؟".
شعرت مادلين بالحرج من صراحتهما ، وردت بهدوء:
" لا أظن أنني أعرف الكثير عن الإيطاليين ".
فقالت ماريا مبتسمة:
" اتوقع ان تعرفي عن قريب !".
وسالت ماريا ديانا عن رايها ، محاولة إجتذابها الى الحوار ، فهزت كتفيها بلا إكتراث ، وقالت ببرود:
" لا أظن أنني أريد الزواج ، واعتقد ان العمل اهم من أن أكون جارية لرجل !".
شعرت مادلين بتوتر اعصابها ، قررت ديانا ، فيما يبدو ان تكون صعبة المراس ، وكانت على وشك ان تدلي ببعض إمارات الإستنكار والتوبيخ ، ولكن نيكولاس رفع يده وإنحنى الى الأمام في مقعده قائلا ، وهو يبتسم ببطء:
" جارية لرجل ! وماذا تعرفين عن ذلك يا ديانا؟".
أضطربت ديانا في مقعدها ، وقالت في تجهم:
" أنني أعرف أن معظم الرجال يتوقعون من زوجاتهم ان يكنّ رهن إشارتهم ".
تساءل نيكولاس في سخرية:
" أتفكرين في شخص بالذات؟ إن معظم الرجال الذين أعرفهم يقومون بدور نشط في إدارة بيوتهم والعناية بأطفالهم ، وفي الزواج ما هو أكثر من مجرد العناية بالبيت".
جعدت ديانا أنفها ، لم تكن تريد أن تعرف شيئا من آرائه ، ثم قالت:
" في اية حال ، استطيع ان أفكر في عمل ما هو افضل من مجرد الإستماع الى رجل يثير مللي بأفكاره".
اصيبت مادلين بهلع ، ولكن نيكولاس رفع حاجبيه السوداوين فقط وبدا مهذبا ، حتى عيناه كانتا تتألقان وكانت هناك إبتسامة تلوح على زاوية فمه ، الأمر الذي جعل ديانا تدرك انها تبدو حمقاء .... وما لبثت ان تطلعت الى مادلين وماريا ، وبينما كانت أمها تبدو قلقة ، كانت ماريا تبتسم ، ثم شعرت فجأة بكراهية نحو الجميع وضغطت شفتيها معا بشدة.
وفشلت الأمسية ، واثّر سلوك ديانا عليهم جميعا ، وشعرت مادلين بالإرتياح لأنتهاء العشاء ، وأمكانهم الأنصراف ، وصحبهما نيكولاس في سيارته في التاسعة والنصف ، وعندما وصل الى مجمّع الشقق أمام المنزل طلب من ديانا أن تصعد لأنه يريد أن يقول كلمة لأمها ، فإنصرفت بدون ان تعبا بشكره على العشاء ، وقالت مادلين في تعاسة:
" يا لها من أمسية فظيعة ، لا أدري ماذا ستظن فينا الان ".
فوضع راحته على رأسها ، وتطلّع اليها مفكرا وقال:
" إن ما تفعله ديانا ليس من شأنك ، كانت مجرد خائفة ومضطربة بشان أمور لا تفهمها ، كما انني لم اقدم عونا كبيرا ، أليس كذلك؟".
وطلب منها اللقاء مرة اخرى ، فأمهلته يومين لتحاول ان تجعل ديانا تفهم ، فوافقها على ذلك ، وألقى اليها بنظرة هوى ثم إنصرف ... ووجدت مادلين ديانا في الفراش متظاهرة بالنوم ، فقررت أنه من الأفضل عدم إيقاظها وبدء شجار معها ، وأوت الى الفراش صامتة بدون أن تلقي اليها حتى بتحية المساء.
وفي الصباح ذهبت ديانا الى المدرسة بدون كلمة ، وتساءلت مادلين لماذا تتصرف ديانا هكذا؟ إنها لا تدرك إلا أنها هي ونيكولاس صديقان ، وليس هناك سبب لنفورها إلا الغيرة المحضة ، الأمر الذي يجب تحطيمه ، وفي المدرسة أدرت مادلين عملها بطريقة آلية ، وذهنها مشغول بذكرى عشاء الليلة السابقة ، وبينما كانت تتناول الطعام عند عودتها مع ديانا ، تساءلت الفتاة :
" هل ستخرجين الليلة مرة أخرى؟".
" كلا.... لماذا؟".
" إنني اتساءل فحسب ، هل أنت غاضبة مني؟".
" ولماذا تتصورين ذلك؟".
بدت ديانا خجلة قليلا من نفسها ، وقالت:
" لست أهتم بشيء في أي حال ، قلت لك أنه ليس في وسعي ان اتناول العشاء معهم ، إنهم ليسوا من طرازنا".
حدّقت فيها مادلين بغيظ ، وتساءلت في غضب:
" من هم طرازنا إذا ؟ أظن أنك ستقحمين إسم أدريان هنا مرة أخرى".
" حسنا ، أدريان على الأقل لا يسلي نفسه على حسابنا ، لا اراك تعتقدين أن نيكولاس فيتال سيكون له شأن جاد معك ؟".
" أعتقد أنك فتاة أنانية قاسية ، ولكن لا تتخيّلي ان ما تقولينه سيؤثر عليّ ، إنني في سن تسمح لي بان اتولى شؤوني بنفسي".
هتفت ديانا:
" إنك مصممة على أن تجعلي من نفسك حمقاء !".
أطبقت مادلين قبضتيها ، وكان شعورها الأول هو أن تصفع ديانا بشد فليس من حقها ان تتحدث الى امها بهذه اللهجة مهما كانت مشاعرها في هذا الشان ، ولكنها بدلا من ذلك نهضت عن المائدة وسارت الى غرفة النوم وأغلقت الباب ،وتركت ديانا وحدها ، والواقع ان ديانا شعرت بانها تجاوزت الحد ، ولكن كان ثمة شيطان بداخلها يدفعها دفعا.
وفي المساء التالي ، وبينما كانت مادلين تستعد للخروج تساءلت إذا كانت تتصرف بتهوّر وطيش وهي تخاطر بفقدان صداقة إبنتها من أجل رجل عرفته لأقل من أسبوع فقط ، ولكن شكوكها سرعان ما ولّت عندما نزلت الى لقائه ،وتوجها بالسيارة الى هاينوك ، وهي قرية على مشارف البلدة ، حيث كان هناك فندق لم تدرك مادلين وجوده من قبل ، وأوقف نيكولاس السيارة وإذ كان يتفحص المنطقة قال لها أن من الأفضل ألا يكونا وحدهما ولكنها أشعرته بطمأنينتها طالما أنه معها ، وأخبرها انه لا بد له من الذهاب الى روما لعدة ايام ، وفي موقف عاطفي وداعي أخذ وجهها بين راحتيه وعانقها ، وفي إنتظار إستجابتها له... اخذت يده ووضعتها على عنقها ، فاحست بوخز لشيء في أصبعه ، كان خاتما منقوشا مرصعا بالزمرد ، فتساءلت:
" إنه جميل ، هل أعطتك زوجتك إياه؟".
فهز راسه قائلا:
" جوانا وأنا تعارفنا قبل الزواج بشهور قليلة فقط ، قابلتها عندما ذهبت الى الفرع الأميركي لشركتنا ، كان والدها يدير الفرع في ذلك الوقت ، واحسبني كنت عندئذ شابا قابلا للتاثر ، ولم أدرك ان جوانا وجدت فيّ فرصة لتحيا حياة إجتماعية دولية ، وعندما حملت لم تكن مسرورة لذلك ولامتني على أنني حطمت حياتها ، وللأسف ولدت الطفلة قبل الأوان ، وبينما كانت في دار النقاهة اصيبت بفيروس تركها ضعيفة جدا ، وما لبثت ان ماتت بعد ذلك ، وقد لمت نفسي بالطبع على ذلك ولكن الزمن يشفي كل شيء ، كما ان ماريا نفسها كانت السبب في إستمرار حياتي".
" إنني آسفة".
" كان هذا منذ وقت طويل....".
قال ذلك ثم خلع الخاتم واخذ بيد مادلين وسحب خاتم زواجها وإستبدل به خاتمه المنقوش ، وعندما تطلعت اليه بدهشة قال:
" انت أول إمرأة تلبس خاتما وهبته لها عن حب ، اما الخواتم التي كانت تلبسها جوانا فكانت شيئا آخر ، وفي وسعك أن تقولي أن ابي هو الذي إشترى جوانا لي ، كانت تنحدر من أسرة أرستقراطية في بوسطن".
وقال لها انه سيتصل بها يوم الإثنين من روما وأنه قد يذهب الى فيلنتيا كذلك ، ولكنه سيتصل بها حيث كان ، وأنه سيسافر غدا وقد يعود الأربعاء أو الخميس ، وطلب منها أن تلبس الخاتم في غيبته ، فترددت ثم وافقت ، وهي تشعر بأن الأيام القليلة المقبلة ستكون بمثابة اعوام.
وكان نيكولاس يدرك إزدياد إنجذابه الى مادلين ، وكم اصبحت هامة بالنسبة اليه في مثل هذه الفسحة القصيرة من الوقت ، أراد ان يعرب لها عن شعوره ، وأن يرجوها الذهاب معه ، والزواج منه على الفور ، ولكنه قرر عكس ذلك ، إذ يبدو الأمر تعجلا من جانبه وقد تظن انه ينصب لها شركا ، لا بد ان ينتظر حتى يعود من إيطاليا ، وشعر بأنه لم يعد يريد الذهاب ، وان إهتمامه الدائم بعمله أصبح الان ذا أهمية ثانوية ، بالمقارنة الى مشاعره نحو مادلين ، إنه يريد أن يفعل لها الكثير ، وأن يريها اماكن كثيرة ، ولكنه يريد أولا ان يقول لها أنه يحبها ، وأن يسمع منها أنها تبادله الشعور ... وتركها عند باب الشقة وها هو يعدها بالإتصال في أسرع ما يستطيع ، واوشكت ان تبكي وهي ترى أضواء سيارته تختفي على الطريق الرئيسي ، ولكنها لمست الخاتم فشعرت بأنها لم تعد خائفة

الماضي لا يعودحيث تعيش القصص. اكتشف الآن