أغلقت الفتاة باب المنزل وتنهدت بتعب.
ما حدث اليوم كان زائداً عليها وفوق قدرة احتمالها بمراحل.
فقد عاشت اليوم الكثير وفاق قدرتها على الاستيعاب واستدراك الأمر ولم تسنح لها الفرصة للتفكير فيما يحدث في الأساس ولم يكن باستطاعتها تحمل الأمر فهي بشر في النهاية.
كان أمر فابري مرهقاً وموتراً لوحده في الأساس فما بالكم بالقنبلة التي انفجرت في الشركة بعد عودتها إليها؟!
عودة والدة جان كان كفيلاً لأن يلهي جميع من في الشركة في النميمة لمدة أسبوع كامل خاصةً وجه جان الغير مرحب بها بتاتاً.
أما عن ما حدث في بيت الجبل ورؤيتها لذلك الرجل الذي لم تتعرف عليه أبداً كان مؤلماً للغاية مما جعلها تبذل قصارى جهدها لتخرجه من تلك الحالة التي كان عليها.
بل ليس ذلك فقط بل جعلها تتعهد أن تعوضه عن كل تلك الآلام التي عاشها يوماً في غياب والدته وبسببها.
ولكن المشكلة أنها أم، فمهما بدا الأمر وكأنه صلب لا يحتاج والدته في أي شيء إلا أنه كأي نفسٍ بشرية وجود الأم ضروري في حياته، فحتى لو كابر وكذب ولم يعترف بذلك إلا أنه تعرف أن في داخله، في أعماقه طفلٌ صغير يحتاج إليها مر الحاجة.
راحت سنام بخيالها لعقودٍ مضت وبدأت تتخيل جان الطفل الصغير وهو يقف أمام باب منزلهم القديم وينتظر دخول والدته منه...
ولكن مهما طال انتظاره، لم تأتِ تلك المرأة...
وكلما زادت مدة انتظاره زادت دموعه...
وفي النهاية جفت تلك الدموع وتوقف عن الانتظار...
فكبر ذاك الصبي الصغير قبل أوانه
ولأنه تعرض لكثيرٍ من خيبات الأمل أدرك في النهاية أن حبه للناس ليس أمراً كافياً ليبقيهم معه وبجانبه
فتعلم الترك والفرار والهروب، كلما ارتبط بمكان أو بشخص تخلى قبل أن يتعرض لنفس ذاك الألم والوجع مرة أخرى.ولكن كما يقول جان دائماً أنها هي من تبقيه وبدونها كان قد ذهب وترك المكان منذ زمن.
تعلم على يدها الحب من جديد وذاك الحب هو الذي أمسكه وأبقاه هنا وبدونه كان قد ضمها إلى قائمة المتخلى عنهم...تنهدت سنام مرةً ثانية وغاصت عميقاً في عالمٍ آخر تفكر بعمق فيما حدث اليوم ولم تنتبه حتى لأختها ليلى التي دخلت إلى غرفتها ووقفت خلفها بهدوء وقررت أن تنادي باسمها.
- سنام...
نادتها ليلى بنبرة صوتها الطبيعي وانتظرت منها رد ولكن لم تحصل عليه لأن عقل سنام كان في مكانٍ آخر بعيداً عن الأرض تماماً فرفعت يدها لتضعها فوق كتف أختها وحينها فزعت سنام ووقعت على السرير من الصدمة وحين اكتشفت أنها كانت مجرد أختها أخذت تتنفس بصعوبة وتقول برعب:
- أرعبتني يا هذه، لماذا تأتي خلسة من ورائي؟!
- أنا لم آتي خلسة أبداً، أنت من في عالم آخر ولست على الأرض معنا. أين شردتي؟
أطلقت سنام زفيراً طويلاً تحاول تنظيم ضربات قلبها واقناع نفسها بأن كل شيء قد انتهى وأنه لا يوجد ما تخافه أبداً.
ثم رفعت رأسها لتنظر إلى أختها وقالت وهي تنهض من مكانها لتحاول خلع اكسسواراتها التي ارتدتها لتحويل نفسها إلى حالتها المنزلية التي كانت عليها صباحاً:
- لا شيء، كنت مع جان وأفكر في كلامنا لا أكثر.
- كنت واثقة من أنك كنت معه لهذا قلت لأمي أنك مع أيهان في الأساس.
ولأن الوضع مازال كما هو عليه كان وجودها مع جان أمراً غير طبيعي لفتاة تعيش في حي فإلى أن تصبح الأمور رسمية يبدو أنهما سيعانيان القليل بعد.
- يا فتيات، مرحباً.
- اه، انظري من جاء... كنا نتحدث عنك حالاً.
دخلت ايهان الغرفة وأغلقت الباب من خلفها ثم التفتت لتقول وهي تضحك:
- خالتي موكبة قالت أننا لا نستطيع أن ننفصل عن بعض لدرجة أنك تتركيني فألحق بك فوراً.
ضحكت الفتيات ولاحظن من ملامح الفتاة انها تدبرت الامر وسايرت موكبة ولم تفشي عنها.
- ايهان... تعالي يا صديقتي لقد اشتقت لك كثيراً.
سارت سنام إلى رفيقتها وصديقتها المقربة واحتضنتها فقالت الفتاة وهي بين ذراعي سنام:
- وانا قلت لها بالطبع يا خالة موكبة... نحن ثنائي لا ينفصل!
- أحسنت صنعاً يا فتاة. ماذا يوجد لديك من جديد؟
- لا شيء مميز. قلت أنك انشغلتي في عملك ولا نستطيع التسكع كالماضي فلآتي أنا إذاً وأراكي.
- خيراً ما فعلت.
كانت الفتاة تمسك بكيس كبير من البذر المحمص وعندما رأته سنام مدت ذراعها وبدأت تتناول منه بدون حتى أخذ الإذن منها.
- إذاً طالما أميرة الثلج كذبت على خالتي موكبة وأخبرتها أنك كنتِ عندي إذاً أنت كنتِ مع جان أليس كذلك؟ أخبريني إذاً هل توجد أخبار جديدة؟
كان ينتابها الفضول كثيراً لمعرفة ما يحدث مع سنام لأنه مهما حدث معها من أحداث لن تكون بإثارة الأحداث عند سنام.
وقبل أن ترد عليها سنام ردت عليها ليلى تعطي للجملة إثارة ورهبة وعظمة أكثر.
- نعم هناك، هوما هانم موجودة!
- من هذه؟
جاوبتها ليلى ضاحكة:
- إنها حماة سنام المستقبلية.
- والدة جان!
كانت الصدمة على وجه ايهان واضحة لأن صديقتها لم تذكر والدة جان من قبل وعلى حد علمها أنها لم تكن في البلاد لسنوات والآن قد جاءت.
أمرها غريب حقاً..
- كيف هي سنامسي؟ أي نوع من النساء هي يا ترى؟
- دعك من هذا الآن. أنت أخبريني الآن يا سنام، لماذا رحل جان وتركها؟ بعض الموظفون في الشركة يقولون أنه لا يتحدث معها لسنوات أهذا صحيح؟
جاوبت سنام بقلة حيلة وراحت تفكر في حبيبها المسكين مرةً أخرى.
- نعم، هو غاضب منها ولا يتحدث معها.
لاحظت ايهان رد فعل سنام الحزين على حبيبها ولأنها تعرف أن صديقتها ذات قلبٍ رقيق لا تتحمل الأذى لأي شخص تعلم جيداً أن رد فعلها هذا نتيجة معرفتها أن حبيبها قد تأذى بسبب تلك المرأة كثيراً فحاولت أن تخفف عنها بطريقةٍ ما.
- ليكن يا روحي، يكفي أنه لن يكون لك حماة تجعلك تكرهين حياتك بسببها.
- هل هذا يعقل يا ايهان الآن؟ إنه والدته في النهاية!
لم تكن سنام تحب التفكير بهذه الطريقة أبداً ورغم أن هناك كثير من الفتيات يشتكون من والدة أزواجهن ولكنها لا تريد أن تستغل ذاك الوضع وابعاد جان عن والدته عمداً.
تريده أن يعفو ويصفح ولا يحمل الغضب والكره بداخله ولكن عملها صعب للغاية...!
- أنا عقلي لدى جان فنظراته المتألمة آلمتني كثيراً.
توقفت سنام عن الكلام وأخذت تعيد الشريط من أوله وسافرت إلى سنوات قديمة فيها تطلقت هوما من والده وتخلت عنه وأخذت أخوه الأصغر سناً.
- لقد تركته تلك المرأة وهو طفل وفضلت أن تأخذ أخوه على أن تأخذه هو.
- إنه مسكين حقاً.
لمعت عينا سنام وهي تنظر للفتيات وتتذكر منظر جان الذي كسر قلبها فقالت وهي تدفع دموعها وتمنعها عن السقوط.
- لو ترينه يا فتيات كيف بدا؟ مسكين وحزين ويكسر القلب المتحجر...
مسحت دموعها من عينيها وصمتت قليلاً تفكر في حبيبها المسكين وحين أدركت أنها غمرت الجو بالطاقة السلبية التي تكرهها راحت تحاول تغيير الموضوع فقالت بتفاخر والابتسامة على وجهها:
- وأنا بالطبع حاولت أن أرفع من معنويات حبيبي وأديت واجبي كحبيبة بامتياز!
- ماذا فعلتما؟
- بالأصح، أين كنتما؟
- لقد ذهبنا إلى بيت الجبل في البداية، جلسنا وشربنا الشاي وتكلمنا قليلاً وحين وجدت أن ذلك لن يفيده أخذته وذهبنا إلى العم حسن وتناولنا الكفتة المشوية ثم سرنا على الساحل كثيراً وتكلمنا لساعات.
- هل العم حسن ذاك الذي يبيع الكفتة الذي عرفتيني عليه؟ كم اشتهيت الكفتة الآن! سأذهب إليه غداً بالتأكيد.
تنهدت سنام بتعب وقالت وهي لا تستطيع تغيير الموضوع لأنها لم تستطع أن تفكر في غيره فهو حبيبها وروحها فكيف لا تفكر فيه؟
- ينتابني أحياناً وأقول، لو ترحل تلك المرأة بسرعة لأن جان حزين للغاية وهي تزيده حزناً بوجودها رغم أنني كنت أتمنى أن يتصالح معها.
- كيف يتصالح معها جان بيه وهي من تركته لسنوات؟
- أعرف ذلك ولكنها والدته في النهاية وكل إنسان بحاجة إلى والدته.
وبعد انتقال الفتيات من ذلك الموضوع إلى موضوع آخر يخص ايهان هذه المرة دخلت موكبة بدهشة مرسومة على كامل وجهها وتوجه السؤال لسنام وتقول:
- يا فتاة هل ما سمعته صحيح؟!
- أمي؟!
- خالة موكبة؟
تجمدت سنام في مكانها واتسعت أعينها وهي تنظر إلى والدتها التي قامت باقتحام الغرفة ولا تعلم مقصدها من هذا السؤال وفي الحقيقة خافت من احتمالية مقصدها لتأخرها خارج المنزل فبقت متجمدة تنظر لوالدتها بينما كان عقلها يعمل ويفكر في طريقة للهروب من الغرفة إذا كان عقابها الضرب بالشبشب المنزلي.
- يا فتاة لما لا تردي؟ هل جاءت أم جان حقاً؟
حين لاقت موكبة الصمت منها ومن الباقي أعادت السؤال مرةً أخرى ووضعت بعض البهارات جعلت سنام تتنهد بأريحية وتبتسم ابتسامة عريضة لنجاتها من الضرب لهذا اليوم.
- أنت تقصدين هذا، قولي هذا من البداية!
- بالطبع وإلا ماذا أقصد؟
أحكمت سنام غلق فمها وضغطت شفتيها معاً تتمنى لو استطاعت العودة بالزمن للوراء واسترجاع ما قالته منذ قليل فحركت رأسها لتنظر إلى ليلى تطلب منها المساعدة بعينين بريئتين لطفلة صغيرة.
-... هي ظنتك تسألين عما كانت تقوله ايهان قبل اقتحامك الغرفة، هذا كل شيء.
- نعم، نعم هذا بالضبط ما قصدته تماماً!
صمتت سنام قليلاً وحين وجدت والدتها تقترب من السرير الذي جلس عليه ثلاثتهن وفرت عليها أن تسأل السؤال للمرة الثالثة وجاوبتها عليه.
- ونعم لقد جاءت والدة جان.
صمتت سنام لتكمل ليلى وهي تضع البهارات لتبين مدى ضخامة الأمر وعظمته مجدداً.
- وسقطت مثل القنبلة في منتصف الشركة!
- ياا وماذا حدث؟ كيف كان رد فعل جان؟
بدأت سنام في قص الحكاية لوالدتها من جديد بقليل من التفاصيل ولكن حاولت قدر الإمكان تغيير بعد التفاصيل كي لا تخرب كذبة أختها لإنقادها وفي نهاية الأمر استطاعت الفرار بجلدها من والدتها التي كانت تبعث الرعب في نفس أي شخص وخاصةً بناتها.
فبنسبة لأمر جان وسنام فلأنها جديدة ومازال والدها لم يهضم الأمر كلياً فكانت تخفي عليهم أنهما يلتقيان خارج أوقات العمل لكي لا تتلقى التوبيخ وفي النهاية حين يمر بعد الوقت ويعتاد والداها على جان ويتأكدان من حبه لها حقاً سيستطيعان أن يحصلا على حرية أكثر.
أنت تقرأ
Zümrüdüanka العنقاء
Fanfictionطائر العنقاء هو الطائر الذي يموت فيحترق ويولد من رماده طائر عنقاء جديد فمهما تألمت ومهما احترقت ستنهض وتبدأ من جديد . (الرواية ستكون عبارة عن تتمة لمسلسل الطائر المبكر من حلقة 26 من وجهة نظري وأفكاري) -من مشهد إعطاء سانم العطر لفابري-