٤-حكم الإعدام

1K 42 10
                                    

جلست على مقعد فوق الرصيف المقابل للمبنى التي كانت تقصده.
ولكنها كانت خارج العالم وخارج الواقع في هذه اللحظة.
كان جسدها وكل ما فيها في هذا العالم ولكن غاب عقلها عنه.
كانت كالتائهة التي لا تعرف أين هي ولا المكان الذي يحتويها فراحت تنظر إلى الشارع وإلى البشر بنظراتٍ ضبابية تائهة مفقودة عن هذا العالم سارحة وسابحة في عالمٍ آخر قد احتواها بعد تلقيها صدمة شلت خلايا استيعابها.
فكانت بهذا الشكل الغير واعي تفقد نفسها رويداً رويداِ حتى أنقذها صوت رنين هاتفها المحمول وسحبها من ذاك العالم الذي احتواها وأخرجها إلى الواقع المرير مرة أخرى لتدرك المكان الذي كانت فيه وتوقن ما عانته لبضع دقائق والذي بالطبع كان خارج عن سيطرتها تماماً.
رفعت الفتاة الهاتف إلى أذنها بدون حتى النظر على اسم المتصل وجاوبته بصوتٍ خافت مرتعش وضعيف.
- أين أنت يا سنام؟ لم تبقى حجة واحدة لم أخبرها لديرين هانم!
مسحت سنام على وجهها وهي تحاول دفع عقلها للعودة إلى رشده ولكن مهما حاولت فعل ذلك كانت تشعر بالضياع التام ورفض عقلها العودة لوعيه فقالت أخيراً بنفس الصوت الضعيف:
- أنا قادمة...
- تعالي أرجوكِ، لا يمكن أن تتأخري على العمل أبداً مهما حدث وإلا سنطرد جميعنا!
أغلقت الفتاة هاتفها ووضعت كلا يديها فوق ساقها ممسكةً بالهاتف، كتفاها منخفضان ورأسها مطرقٌ للأسفل.
لا تعرف ما حل بها ولا كيف ستستطيع الخروج من الأمر.
وحتى أبسط الأشياء لم تكن تستطيع التفكير بها لأن عقلها قد توقف عن العمل.
كانت خائفة...
لا تنكر سنام خوفها من الأمر ولكنها كانت تشعر ببرودة تجمدها في مكانها ولأن عقلها كان فارغاً لم تستطع أن تجد حلاً ينقذها من تلك الورطة.
فأي بلاء قد وضعت به نفسها؟
مازال عقلها لا يتوعب ذاك الأمر ومازالت تشعر بأنها في حلمٍ... لا بل كابوسٍ مزعج ستستيقظ منه بعد ثواني!

تنهدت الفتاة بتعب وقلة حيلة وخيبة أمل ورفعت رأسها لتنظر أمامها على مبنى الشركة التي تعمل فيها.
ماذا تفعل وكيف تتصرف؟
لا يوجد إجابة لذلك أبداً وحتى لو حاولت بشدة لا تجد أي شيء ليحل عنها مصيبتها.
وفي النهاية بعدكا قضت بضع دقائق أخرى في التفكير برأسٍ وعقلٍ فارغين نهضت من مكانها لتتجه إلى الشركة حين شعرت بأن الجلوس هنا لن يجدي نفعاً أبداً بل سيزيد من الأمر سوءً فالأفضل أن تنغمس في العمل على أن تفكر في الأمر مراراً وتكراراً دون إيجاد الحل المنتظر.

ذهبت سنام إلى الشركة وقضت معظم الوقت في غرفة الأرشيف مبتعدة كل البعد عن الجميع وعن الضوضاء وحتى الكلام البسيط.
وكانت في هذا المكان على أمل أن تعمل في هدوء ولكن انشغال عقلها وضيقها وقلة حيلتها جعلوا منها عديمة الفائدة في هذه اللحظة.
دفنت الفتاة نفسها في هذا المكان ولم يعرف أحد بوجودها فيه ولكن جان كان يبحث عنها في كل مكان حتى وجدها في المكان الذي تلجأ إليه وتختبئ فيه من الجميع دوماً فابتسم فور رؤيتها وراقبها من بعيد وهي منغمسة بقراءة ملف كانت تعمل عليه وتقرأه مراراً وتكراراً كي تدخل الكلام إلى عقلها ولكنها لم تنجح بأي طريقة كانت.
سار جان إلى جهتها وكان ظنه أنها سترفع رأسها فور دخوله لسماعها صوت أقدامه ولكنها لم تفعل.
ولم تستجب أذنا سنام لأي صوت كان حتى أصبح جان أمامها وانحنى ليقبل رأسها فانتفضت الفتاة بذعر وراحت تنظر له برعبٍ بسيط رسم في ملامح وجهها وقابلها جان بابتسامة بسيطة على وجهه وجلس فوق الطاولة التي تعمل عليها ولكن تغيرت ابتسامته حين وجد ملامح الخوف على وجهها.
- ماذا هناك؟ إنه أما لا غير؟
أخذت سنام شهيق عميق وتركت القلم من يدها وعادت بظهرها للخلف وقالت:
- لقد انغمست في العمل ولم أسمعك... لا تؤاخذني.
ضحك جان وانحنى ليقبل وجنتها اليمنى وقال:
- يبدو أننا سنحظى بحملة قوية إذاً!
- نعم...
نهضت سنام من مكانها واتجهت إلى إحدى الأرفف تتظاهر بانشغالها في قراءة الملفات الموجودة حتى لا تظهر لجان ملامح وجهها المتضايقة والغريبة التي تعرف أنها تظهر بنسبة كبيرة عليها وتعرف أنه إذا لاحظ وجودها سيتحرى عن الأمر لا محالة.
نهض جان من مكانه وتبعها حتى وصل للبقعة التي تقف بها ثم ضمها إلى صدره واحتضنها بدفئ ثم وضع قبلةً رقيقة فوق كتفها الأيمن.
فابتسمت سنام بضعف تشعر بقلبها يتهشم ويتحطم لمئة قطعة إثر الدفئ والمحبة النابعين من قلبه.
وجودها في هذا المكان معه وبين يديه لم يكن كافياً ليمحي أحزانها وآلامها التي تتغذى على قلبها.
إنه جان، قلبها وروحها فكيف لها بألا ترتاح لوجوده معها؟!
بل بالعكس كانت حالتها تزداد سوءً بوجوده معها....
كم أرادت أن ترتمي بين ذراعيه وتفضي كل ما في قلبها وتحكي له ما حدث معها ما ضرها وما آلمها كطفلةٍ صغيرة وقعت في مشكلة وكان والدها هو الملجأ الوحيد الذي تلتجئ له ويريح قلبها ولكنها... كانت خائفة.
خائفة من أن يسيطر عليه غضبه مجدداً ويذهب لضرب الرجل مرةً أخرى وربما هذه المرة قد يفعل ما هو أكثر من الضرب...!
ورغم أن الأمر غير واضح بتاتاً ولكنها تعرف أنه سيفعل لأنها تثق في حبه وقيمتها عنده فلهذا قررت ألا تخبره بالأمر وتخفي عنه ذلك خوفاً عليه لا خوفاً منه...
فاكتفت بالصمت وانتظار أن ترى ما قدر لها بأن يحدث.
سبحت سنام في عالمٍ آخر أخذها بعيداً عن هذا العالم مما جعل الأمر مريباً بالنسبة لجان الذي بدت عليه السعادة وهو يتحدث معها عن مختلف الأشياء وهو يحتضنها بهذا الشكل.
ولكن حين سأل بضعة أسئلة لم يحصل على أي جواب منها أمسك بكتفيها وأدراها ليستطيع رؤية وجهه.
وحين نظر على وجهها وجد علاماتٍ وملامح لم يعهدها على سنام التي يعرفها يوماً فسألها عن حالها مما أيقظها ودفعها للعودة إلى الواقع المرير مرةً أخرى وجاوبته وهي تحاول ألا تظهر له أي ملامح أو شكوك أخرى.
- ماذا بك؟ هل أنتِ بخير؟
- أنا بخير...
رفع الرجل يده ووضعها على وجنتها وراح يمسح بإبهامه فوق وجنتها وينظر لعينيها بزوجٍ من العيون القلقة وقال وهو يتصفح كل سنتيمتر في وجهها.
- لا تبدين كذلك... هل أنتِ مريضة؟ هل هناك ما يضايقك؟
لامس الرجل جبهة حبيبته بكف يده ليقيس من حرارتها ولكنها كانت طبيعية فنظر لزوج العيون البندقية التي أمامه فرأى غيمة قد زينتهما فراح يحدق بها بنفس العيون القلقة.
رسمت سنام ابتسامة بسيطة فوق شفتيها ورفعت يدها لتمسح على لحيته وحاولت بشدة ألا تزيد من شكوكه وقالت:
- أنا بخير... حقاً.
اقتنع جان أخيراً أو هذا ما رأته هي وحاول ألا يضغط عليها أكثر فسحبها للخلف وسار بظهره حتى وصل إلى المكتب وأجلسلها فوق الكرسي وقال وهو يمسح على شعرها بلطف:
- يبدو أن الأعمال قد أرهقتكِ هذه الآونة، ما رأيك بأن أختطفك الليلة وآخذك إلى بيت الجبل لنقضي الليل نشاهد النجوم؟
كان مزاجها لا يناسب التواجد في أماكن أخرى غير منزلها بل أكثر من ذلك، كان التواجد معه بالتحديد محظور عليها لأنها لن تتحسن لا اليوم ولا غداً فكيف لها بأن تكون معه وهي بهذا الحال وتستمر في الكذب عليه وتقول أنه لا يوجد شيء وأنها بخير؟!
- ألا يمكن أن نؤجل الخطة لما بعد ذلك؟
- هل هناك ما يمنعك في البيت؟ ألم تنجح خطتك في إعادة والدك إلى البيت؟
كانت الأوضاع مستقرة في البيت وبالعكس انشغال والديها في الشجار وهما في مكان واحد سيشغلهما عنها فما الذي سيمنعها من الهرب إليه؟ لا شيء...
وبالطبع إن رفضت التواجد معه بحجة مصطنعة كالعادة سيشعره بأنها تتهرب منه ولابد أنه قد لاحظ ذلك بالفعل فهو ليس غبياً أبداً.
- لا ولكن... حسناً سآتي معك.
وافقت سنام أخيراً على عرضه تتمنى أن تتحسن إلى المساء فهي ليست على استعداد بأن يتم استجوابها في أي شيء فهي حزينة كفاية لما حدث معها ولا تريد أن تضيف حزناً إلى حزنها أبداً.
- هذا رائع، سآخذك في تمام الساعة الثامنة إذاً.
رحل جان من المكان بعد تركه قبلة وداع على وجنتها. فكان متحمس للغاية للمفاجئة التي انتوى أن يحضرها لحبيبته وزوجته المستقبلية وهي تظن أنها ليست إلا مجرد مراقبة للنجوم فراقبته سنام من بعيد وداخلها فارغ منطفئ...
مر بعض الوقت على تواجدها في غرفة الأرشيف حتى جاءت جوليز لتخبرها باجتماع للفريق الإبداعي فاضطرت سنام أن تترك ملجأها وتتجه ناحية غرفة الاجتماعات لحضور ذاك الاجتماع.
قضت سنام معظم الاجتماع تحاول بألا تلفت الانتباه لها وجاهدت بأن تبتسم لجان من الحين للآخر حين وجدت أن عيناه لم تفارقاها منذ مجيئها.
كأنه كان يحرص على مراقبتها ليلتقط أي ملامح غير طبيعية على وجهها.
أما عن باقي الاجتماع فقد سار بملل وتكرار حتى جاءتها مكالمة.
- هاتف من الذي يرن يا أصدقاء؟ ألم ننبه مراراً على إغلاق هواتفكم قبل الاجتماع؟!
- لا تؤاخذوني سأغلقه حالاً.
رفعت سنام هاتفها لتغلقه ولكنها توقفت حين قرأت اسم المتصل فتجمدت للحظات وشعرت بجفافٍ في الحلق ثم رفعت رأسها تحاول أن تخرج صوتها وتتكلم ولكنها لم تعرف فسعلت لتنظف حلقها وقالت بصوتٍ خافت:
- إنها... إنها أمي، لابد وأن الأمر طارئ، سأرد عليها وآتي.
ثم نهضت من مكانها وقدميها ترتجفان ولكنها حاولت قدر الإمكان أن تتوازن فعلقت ديرين قائلة بوجهٍ ضجر:
- بالطبع يا روحي، أمورك كلها طارئة في الأساس.
نظر جان إلى ديرين بنظرة إنزعاج ثم عاد برأسه لينظر لسنام وقال:
- حسناً يا سنام، ردي على والدتك ولا تجعليها تنتظر... وأوصلي لها سلامي.
أومأت سنام برأسها ثم التفتت لتخرج من الباب بسرعة ولم يكفيها خروجها من الباب لترد على الهاتف بل ركصت إلى الحمامات.
وحين وصلت سنام إلى الحمامات راحت تنظر يميناً ويساراً إن كان هناك أحد يقف في المكان وحينما لم تجد أي أحد رفعت الهاتف إلى أذنها وجاوبت بصوتٍ مرتجف.
- فابري بيه...
لم تكن الفتاة على استعداد لمكالمةٍ منه بعد لأنها قضت تلك الساعات التي عاشتها بعد رسالته بعقلٍ مشوش وضائع ولم تستطع حتى أن تفكر في حلٍ يخرجها مما هي فيه ولا حتى استطاعت أن تتحدث إلى أي شخص قريب منها لمشاركته همومها كما تفعل عادةً بل كانت متجمدة في مكانها ولم تعرف ما تفعله أبداً.
ومفاجأتها بمكالمة مثل هذه أرعبتها وجعلتها تقطع الهواء عن رئتيها بغير رغبة منها.
- استلمتي رسائلي ولكنك لم تردي علي يا سنام.
أخذت سنام تتنفس بسرعة وشعرت بأن العرق يتجمع على جبينها فجاوبته وهي تحاول أن تتوازن.
-... لم... لم أستطع الرد عليك.
- كنتِ مشغولة للغاية. بالطبع أنتم تحضرون لحملة ماكنين.
ابتلعت سنام لعابها وأمسكت بشيء معدن كي تهدئ من ارتجفاف يدها.
- لهذا أفضل أن نتحدث خارج ساعات العمل. متى ستنهين عملك؟
-... الساعة الرابعة.
- إذاً لتكن الرابعة والنصف في المطعم الذي يجاور الفكرة الرائعة.
لم يتلقى الرجل جواباً من الفتاة فعاد ليتكلم مرة أخرى.
- هل سمعتيني يا سنام؟
- نعم، نعم... سنتقابل الرابعة والنصف في المطعم الذي يجاور الشركة.
- هذا رائع ولكن أتمنى بأن تحضري وحدك لأنك كما تعرفين جان بيه إنسان عصبي فإن استعنتي به وفعل كما فعل سابقاً لن أمرر الأمر هذه المرة بسهولة وحتى إذا التجأتي للرئيس لن أتنازل عن الدعوة أبداً!
أغلقت سنام الهاتف ووضعته فوق المغاسل وأغلقت عينيها بقوة وبدأت تتنفس بصعوبة.
ماذا سيحدث؟ كيف ستتخطى هذا الأمر؟
وضعت نفسها في أمر لا تعرف كيف تخرج منه أبداً.
لا مال عندها ولا حتى جزء بسيط منه.
هل تطلب المال من أحد؟
من لها في الأساس لتطلب منه؟
لا أحد...
هل تطلب المال من جان؟
كيف لها بأن تفعل ذلك بدون إخباره بما يحدث معها؟
وحتى وإن لم تخبره كيف تأخذ المال من حبيبها وتصبح كالفتاة التي أحببته واستغلته من أجل ماله!
لا تستطيع أن تضع نفسها في موقف كهذا أبداً.
لا تستطيع طلب المال بهذه الطريقة وهذا الشكل أبداً...!
ماذا سيحدث لها إذاً؟
كيف ستخرج من ذاك الأمر؟!
يريد المال أو... رائحتها
هل في النهاية هو من سيفوز ويأخذ رائحتها منها؟
برغم كل ما مرت به...؟

Zümrüdüanka العنقاءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن