خرج من عمله مندفعا نحو سلم الشركة الخارجي، يحمل اشترته بأصابعه خلف ظهره وقميصه غير مهندم مفتوحة أول ثلاثة أزرار منه بعبث وكأنه خارج من معركة ما للتو, تابعتها عيون رجال الأمن أسفل البناية بفضول وتساؤل. بينما تجاهل
نداءات عادل صدیقه و زميله في العمل المتكررة والذي حاول اللحاق به قبل أن يبتعد ولكنه لم يجبه. لقد خصم له منذ قليل ثلاثة أيام أخرى من راتبه على إثر مشاجرة افتعلها هو عندما أخطأ متدرب في أحد أرقام الحسابات, لم يكن مجرد شجار أو انفعال, لقد أمسك بتلابيب الموظف وهو يصرخ به ويسبه حاول زملاؤه تهدئته ولكنه لم يستجب لتحذيرهم حتى سمعه مدير فرع الشركة الذي اكتشى في المرة السابقة بمجرد لفت نظره وتوبيخه, أما هذه المرة فلقد تجاوز حدود العمل بكثير شهر تلو الشهر وهو يفقد أعصابه واتزانه وحب زملائه بسبب
سلوكه العنيف والغير مبرر من وجهة نظرهم, لا يعلمون ما يعانيه بعد فقدانها, الندم والألم أصبحا يلوكانه بين فكيهما المسؤولية التي باتت تتقل کتنغية تجاه أبنتيه بعد غياب والدتهما لم يعد يحتملهار كل يوم يقف عاجزا أمام حروف جنی و لجين المبعثرة لا يستطيع فهم جملة مفيدة منهما. لا
يستطيع التعامل معهما, اكتشف ولأول مرة أنه لم يكن والدهما فعلنا لا يعرف عنهما أي شي, ماذا تأكلان, کیف تنامان، ماذا يفعل عندما تستيقظ إحداهما لية باكية من نومها وأحيانا مبللة فراشها, تنادي أمها وتبحث عنها في جميع غرف المنزل وفي النهاية تجف دموعها فوق وجنتها وهي تنام مرغمة وشهقاتها متواصلة تشق صدره, لا يعلم ماذا يفعل .
هل كنت تحملين كل هذه المسؤولية يا هالة دون أن أدري.دون أن أشعر، بل كنت أحيانا أتساءل ماذا تفعلين طوال اليوم في غيابي, اليوم علمت اليوم أدركت, اليوم أنام في فراش بارد وحدي. أفتقد حتى شجارك معي. أفتقد روحك الدافئة. حبك الصامت لي. لماذا لا نشعر بقدرهم إلا بعد أن يرحلوا ذهانا بلا عودة؟ أحتاجك يا هالة أحتاجك بشدة !. عندما عاد إلى منزله مر في البداية على شقة والدته ولكنه لم يجدها، ولم يجد البنات أيضاء ترى أين ذهبتر صعد إلى شقته التي لم يعد يدخلها إلا نادرا منذ وفاة زوجته وانتقل هو ويتات للعيش في شقة والدته بعد أن أصبحت الوحدة صديقهم الأوحد, دارت عينية في الأركان وهو مازال يقف على عتبتها. نوافذ شقته كانت مغلقة والستائر تحجب عنها الشمس كما ترکها تماما, الغيار يعلو الأثاث والسجاد والحوائط كانت تعج بالأصوات والحركة والحياة. والآن صامتة كالقبر بلا زوار. لم يستطع أن يخطو خطوة للداخل إلا قبل أن يمد أنامله ليضيء المصابيح، وعندما دخل لم يغلق الباب خلفه, تريثت خطواته وهو يلج غرفة الفتيات ويشعل ضوئها في البداية قبل أن يلفها بعينيه الثوان. ترى أين خبأت والدته الدفتر التي
كتبت فيه هالة خطابها الأخير له وليناته. لقد خشيت عليه والدته الانهيار مرة أخرى فخبأت الدفتر ولم تخبره بمكانه كانت لديه رغبة قوية في قراءة وصيتها لجنی و لجين ولكن والدته لم تمهله فاستطاع بالكاد قراءة كلمات مبعثرة هنا وهناك في الورقة تعلقت عينية فقط بالكلمات التي كررتها
هالة للبنات وهي تطمأنهما قائلة مرارا وتكرارا
- سأكون حولكما دوقار وكعادتي سأنام بغرفتكما دون أن تريائي ترى ماذا كانت تقصد بتلك الجملة وماذا كانت تعني بتحذيرها إياه عندما كتبت له " أحذر غضبي "! |
في تلك اللحظة نبأته حواسه بأنه لم يعد وحيدا في الشقة عندما سمع صوت حفيف ثياب كحفيف أوراق الشجر قادما نحوه وشعر بكف باردة توضع على كتفه من الخلف, التفت فزعا وقد صدر منه رغما عنه شهقة مكتومة, وما أن اكتملت استدارته حتى واجه عينيها وهي تحرك رأسها وعلى شفتيها ابتسامة ساخرة وتقول:
- العادات القديمة لا تموت !
زفر بقوة والشحوب يودع وجهه وتعود إليه الحياة مجددا وهو يمسحه بكلتا يديه ثم ينظر لها وهو يرفع عينيه إليها بعتب قائلا:
- لا أعلم ماهي هوايتك في إفزاعي هكذا كلما حانت ليكِ الفرصة!
ضربت والدته بعصاها على الأرض وهي تضحك بخفوت قائلة:
- لا أستطيع أن أفوت على نفسي فرصة رؤيتك وانت مذعور هكذا كالأطفال.
زفر من جديد وتخطاها حائقا وخرج من الغرفة ثم من الشقة كلها هابا إلى الأسفل ومازال قلبه يحارب ليعود إلى نبضاته الطبيعية. تستغل والدته كل فرصة ممكنة لإفزاعه بمتعة عجيبة وكأنها تلهو منذ أن علمت بالفوبيا التي تصيبه في الأماكن المهجورة والأصوات العالية الفاجئة بجواره. تحولت ملامحه من التشنج والحنق إلى الحنو والهدوء عندما
وجد ابنتاه تقفان على عتبة باب شقة والدته ويرتديان ملابس دار الروضة المخصصة بهما. جئی تكتف يديها فوق صدرها وتحاول أن تضغط جرس الباب بلسانها و لجين تدفعها بعيدا عن زر الجرس بتقزز وهي تنظر إلى لسان أختها وكأنه قد تحول إلى ثعبان يريد ابتلاع فريسته يبرود, أسرع بالخطى
نحوهما وحملهما فجأة تحت ذراعاه وهو يدخل بهما شقة والدته هاتفا بحب:
- أيتها المشاغبتان
لحقت بهم والدته وأغلقت الباب خلفها ووقفت تنظر إليه وهو يدغدغهما وهما تضحكان بصعوبة وتنظران إليه نظرات مندهشة لعدم اعتيادهما على مداعباته أو التقرب منهم تقدمت والدته وجلست على الأريكة العتيقة بجوارهم وهي تقول بلا مقدمات:
- لقد وجدت لك عروس مناسبة.
توقف عن الحركة وضاعت نظراته مع اختفاء ابتسامته بالتدريج فلم يبقى منها سوى شبح ابتسامة مرسومة فوق وجه حزين بينما ضحكات البنات كانت تصله و كأنها صدى يتردد من بعيد، ألن تيأس أمه من هذا الحديث, ألن تمل ابدا؟!.
يكفي هالة وما سببه لها من الم وعذاب, حتى آخر رمق لها هل يدخل امرأة أخرى في حياته ليعذبها هي أيضا حتى تموت منوية بناره !. رفع رأسه عندما سمع حديث والدته مكررا بتصميم هذه المرة
- هشام, كن واقعيا. أنا أتحرك بصعوبة وأختك عصبية ملولة تحتمل زوجها بالكاد, ولا تسأل عنا سوى في المناسبات فقط والبنات يحتجن إلى أم ترعاهما, اليوم تعبت بشدة عندما ذهبت بهما إلى دار الروضة وهناك بحثت عن عاملة تأتي التأخذهما كل يوم إلى هناك وتعيدهما ثانية في آخر اليوم
لقد استطعت أن أجد مخرج لتلك المشكلة أما بقية
مسؤوليتهما فأنا لا أستطيع حلها, أنا أعتني بنفسي بصعوبة يا ولدي.
نهض واقفا وهو يضع كلتا يديه حول خصره وغصة مسننه عالقة في حلقه لا فكاك من المهام يكاد يتنفس بصعوبة وهو يشعر بها تقف بجواره وتقول بإصرار:
- إنها تحب بناتك ولديها استعداد أترك عملها و..
هتف وهو يستدير نحوها متسع العينين:
- هل هي تعمل أيضا.
حاولت الحديث ولكنه قاطعها وهو يضحك ساخرا وحروفه تقطر بوس ومرارة:
- تعمل! زوجة أخرى تعمل ماشاء الله, ثم نخوض حرب ضروس بعد الزواج لرغبتها في العودة للعمل, ومشاجرات لا تنتهي، والم وعذاب ثم موت .
- ياولدي هي ستترك العمل بإراداتها وست..
صرخ مقاطعا أمه من جديد وقد صارت عيناه حمراء بلون الدم من فرط انفعاله وهو يسترجع لحظات شجارهما في أول عام مر عليه بعد زواجه الأول:
- هالة تركت العمل أيضا بإرادتها من أجلي، ثم ماذا ألم تشهدي بنفسك على حريها معي لكي تعود لعملها؟! لا يا أمي .. لا وألف لار لو كانت هذه الفتاة هي آخر امرأة على وجه الأرض لما تزوجتها أبدا.
وقبل أن تستوعب كلماته كان قد خرج من الشقة بتزق صافقا الباب خلفه بقوة معلنا رفضه الصريح الرؤى دون حتى أن يعلم من هي
***
ها هي قد رفضت كما توقعت من البداية، وقبل أن يراها من الأصل، فكيف لو رآها؟, رفعت رؤى رأسها بإحباط تخشی النظر لعيني والدة هشام حتى لا ترى انعكاس هزيمتها في معركة لم تبدأ بعد وهي تسمعها تتنهد بحسرة قائلة:
- أعلم يا ابنتي أنك وافقتي على مضض. لقد حكت لي هالة رحمها الله كل شيء، وأنا الآن وجهي من في الأرض، لا أعلم ماذا أفعل.
ضغطت رؤى الدفتر الذي تركت به هالة الوصية والرسالة بين يديها بانفعال وتوتر رغما عنها قبل أن تقول بصوت لا یکاد يسمع:
- لا عليك يا خالة، المهم الآن هو مصلحة جنى و لجين، أيا كانت من سيتزوجها لابد وأن تكون رحيمة تستطيع التعامل مع حالة الفتيات بعد أن انزوتا هكذا.
أومأت والدة هشام برأسها مؤكدة وهي تمط شفتيها بحيرة, أين تجد من تتوفر بها هذه الصفات. لقد شاهدت فتيات گتر في المركز الطبي كلما ذهبت للحجامة أو التحدث مع عبير هنالك. فهل تجد عندها مطلبها ؟, نهضت واقفة متكاة على عصابها بضعف وظهر منحني وقد عقدت العزم على ألا تترك عبير إلا بعد أن ترشح لها أكثر من فتاة مناسبة لظروف ولدها
وبناته, لا سبيل أخر أمامها.#يتبع
#متنسوش_الڤوت🙏🏻💜.
أنت تقرأ
"وقالت لي"
Mistério / Suspenseتفحص الكاتب الصحفي عبدالخالق مروان المظروف بين يديه مندهشا، ثم بدأفي فتحه وفض الأوراق منه وقراءة مابين سطورها بفضول، حينها علم بأنه أمام حاله فريده من نوعها تحتاج الا تأمل عميق وصبر طويل لفك احجيتها والغازها قبل الحكم عليها، وقد تيقن من ذلك عندما وص...