[٢]

164 24 2
                                    

سألت الساحرات الربيع: «من هي؟»
أجاب الربيع مضيئاً ورقاتٍ أخرى في الغابة: «الفتاة التي تنسدل حقول القمح على رأسها، وتقبع أشجار الزيتون الأخضر في عينيها، ألا تعرفونها؟! إنها ڤيولا.»

وضعت رايني عصاها السحرية بقرب باب قاعة الاجتماع ثم ولجت حيث استقبلتها نظراتٌ حادة فحدقت بها رايني عدة ثوانٍ حتى قالت العنقاء بترقبٍ: «إذاً؟»
تحدثت الساحرة بسرعةٍ لتمنع فرصة مقاطعتها: «يجب أن تعلموا أنني والساحرات قد بذلنا طاقةً كبيرة لاستدعاء الربيع، ثم سألناه عن سبب إدباره عن الأرض، قال إنه يشتاق لڤيولا ويريد رؤيتها!»
انفجر أدريان غاضباً: «ما هذا الهراء!»
نطق ديمان بجدية: «لو كان شعبك يعيش على الأرض لا تحتها لعلمت حجم رعبنا ولاعترفت حالاً بذنبك.»
نفث التنين اللهب حارقاً كرسيه ثم قال: «لو لم تبتدئي بقول الحقيقة سأحرقك كما حرقت هذا الكرسي!»
اتسعت عينا رايني لتقول بسرعةٍ: «لحظة! لحظة!» ثم أردفت: «أقسم أنني أقول الحقيقة، يمكنني أن أثبت الأمر، فقط أريد منكم اللحاق بي نحو الغابة.»

~...~...~...~

(مرحباً أخي العزيز، أردت أن ألقي التحية وأخبرك أنني قد اشتقت إليك كثيراً، وبمجرد قدومي في الربيع المقبل إلى لندن سأحظر معي الكثير من الحلوى لنأكلها سوياً، بالمناسبة لقد أصبح عمري الآن خمسةٌ وعشرون سنة!
أختك المخلصة...
ڤيولا أدونيس)

أغلقتُ الظرف ووضعته على الطاولة قرب الباب لأسلمها إلى ساعي البريد حين يأتي، ثم اتجهت إلى المطبخ لأصنع طعاماً أسكت به معدتي الغاضبة، تأملت الثلج المنهمر خارجاً وعادت التساؤلاتٌ التي بقيت تراودني منذ أن كنت طفلة...
يا ترى كيف هو ملمس الثلج؟ هل هو ناعم كما يبدو؟ أم هو خشن يؤلم اليدين حين يلامسها؟ هل سأستطيع لمسه يوماً ما؟
ذلك الفضول يقتلني وحين كنت بعمر الست سنين كدت أنصاع له وأخرج في الصيف لألعب مع الفتيات بعمري، لكن لحسن حظي لاحظت أمي ذلك ومنعتني.
نظرت إلى كفاي بحزنٍ دفين، هذا الجلد القبيح لا يستطيع حمايتي من البرد والثلج في الشتاء والخريف، ولا من الحر والشمس القوية في الصيف، لذا اضطر في هذا النوع من المناخ أن أقبع في شقتي الصغيرة ويأتي ساعي البريد الذي تعرفت عليه بمجرد أن وصلت إلى باريس، فيقوم بشراء حاجياتي دون اضطراري للخروج، تنهدت متمللةً وأنا آكل طعامي، ثم التمعت عيناي الواسعان حين تذكرت عبق البنفسج في فصل الربيع وكيف أن أمي أحبت تلك الزهور حتى سمتني تيمناً بها فڤيولا يعني زهر بالنفسج باللاتينية، ربما علمت قبل ولادتي أنني سأكون فتاةً ضعيفة لا تهوى إلا الربيع ولا تطيق فصلاً غيره، ربما يمكنني أن أقول أنني على قيد الحياة بفضله...

كان ذلك اليوم حزيناً حين منعت من الخروج للعب وأنا أسمع أصوات لهو الأطفال وضحكاتهم الحبورة، لذا وبما أن مراهقتي وطفولتي ملئت بتلك المواقف التي علي فيها أن أقبع في المنزل، قررت أن أهرب منه وألقي بنفسي من حافة المرج ذو النهاية المنحدرة بشدة منهيةً حياتي، لذا خرجت فجراً بعد أن بزغت الشمس وأنا ألاحظ احمرار جلدي بسبب البرد الصاعق وأعاني ألماً قاتلاً أكبته في نفسي، كان الجميع يعملون فلم ينتبهوا لغيابي، وخلال سيري حين كنت ألهث تعباً ووجعاً وأتعرق بغزارة تأملت مروج البنفسج حيث اعتدت أن ألهو في الربيع وشعرت بتلك النسمات النقية تتخلل العشب الأخضر، حين كان يفتح الباب لي لأخرج وأكتشف العالم وفقط حينها في ذلك الفصل اللطيف، بدأت أبكي ودموعي تتسابق على وجنتاي الممتلئتان عندما تذكرت كم كان ممتعاً اللعب والركض في مروج الربيع، بل اللعب مع الربيع... سمعت أصواتاً خلفي تصرخ بإسمي فاستدرت لأرى والدي وجدي وإخوتي يبحثون عني، ركضت نحوهم وأنا أرتجف ألماً ثم علمت أنني سأبقى حيةً لأعود لاكتشاف العالم في الربيع فأنا بالتأكيد لم أرَ كل شيئ، قبل أن أسقط مغشياً علي.

إنها أواخر شهر شباط، وقد أزهرت الورود بالفعل في باريس كما قال ساعي البريد، خرجت مرتديةً فستاناً زهرياً ووضعت على خصلاتي الذهبية قبعةً ذات شريطٍ فيروزي كما هو لون حذائي، تمشيت لأصل إلى منتزهٍ قريب مكتظ بأزهارٍ ذات روائح وألوانٍ مختلفة، عبقها ومنظرها البهيج كان يحيط بي من كل مكان، أتسائل كيف سيكون الربيع في لندن مع عائلتي التي تركتها لأدرس هنا في فرنسا حيث تتوفر أقسام داخلية لجامعاتٍ مرموقة، حين أعود إلى منزلي سأعيد تلك الذكريات معهم، سألعب، وأرقص، وأضحك، كم اشتاق لقضاء الربيع معهم!

مضى أسبوعٌ منذ أول مرة أخرج فيها بعد الشتاء، كان ذلك الربيع حافلاً فيوماً أقضيه مع صديقاتي وآخر مع العصافير، لن يبقى فصل الربيع غير ثلاثة أشهر لذا علي أن أروح عن نفسي، دارت هذه الأفكار وغيرها في رأسي وأنا أركب الباخرة التي سأسافر بها إلى لندن كنت متشوقة لأرى زرقة ورونق البحر الذي مضى سنتان منذ أن رأيته...
ها نحن ذا نمخر البحر في يومٍ هادئ ذو أمواجٍ خامدةٍ ولامعة، لم تترك الابتسامة وجهي وأنا أنظر لطفلةٍ صغيرة تتأمل البحر بإعجابٍ ودهشة، ربما كان هذا شكلي حين رأيتُ البحر من الباخرة لأول مرةٍ قبل سنتان، هبت نسمة ربيعية منعشة فماءت قطةٌ طلساء مسترخيةً لتتجه حدقتاي نحوها، قهقهت بهدوءٍ متمنيةً ألا تكون سبباً في سوء حظٍ كما يقولون، ثم بهدوءٍ اقتربت نحوها ودلكت فروها الناعم لتصدر خريراً جعلني أكثر استرخاءً، أنزلق جفناي ليغطيا عيني بسكون ثم بعد لحظاتٍ قفزا مرتفعين عندما سمعت أصوات إنذار الحريق، تصاعدت نبضات قلبي ونظرت بحدقتاي يميناً ويساراً فأدركت كم الحيرة التي سيطرت على الجميع، فهل من الممكن أن يندلع حريقاً في باخرةٍ بهذا الحجم ويكون خطيراً؟

ثم لم تمر لحظاتٍ حتى دب الرعب في نفوس الجميع وبدأ الهرج والمرج، فارتعبت بدوري حين رأيت قوارب النجاة تلقى في البحر فيتصارع العشرات للركوب فيها، ارتجفت حدقتاي وشعرت بأنني أختنق من رائحة دخان الحريق الفاحم، سعلت وانذرفت دموعي في وقتٍ غير ملائم لتحجب عني الرؤية، وحين نظرت للبحر وفكرة أن أركب بقاربٍ صغير قد تمحيه الأمواج أثارت غثياني، لكنني وبالرغم من هذا ركضت رافعةً فستاني ومحاولةً الولوج بين الجموع الغفيرة لأنقض على مقعدٍ أنجو فيه بحياتي، سقطت قبعتي وتبعثر شعري وغطا العرق جسدي إلا أنني لم أستسلم وأصررت دافعةً كل من أمامي حتى سقطت بقوةٍ حين اختل توازن السفينة بينما يحاول المسؤولون إطفاءها بكمٍ كبيرٍ من الماء فمالت نحو جهة الحريق حيث تجمع الثقل، حاولت بدوري النهوض لاهثةً...
وخلال تلك الأحداث المخيفة، لمحت القطة ذاتها بفروها الأسود تنظر إلي بحدقتيها التوبازيتين الغامقتين، ثم ماءت وقد اتخذت مكانها في قارب النجاة فأدركت أن في مواءها الذي لم أسمعه سخريةً من غبائي،

لحظة...ما هذا الذي يغشى قدمي؟ إنه بارد...

ڤيولّا والربِيعُ الحَزين.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن