"لا تهلعوا!"
في الواقع أنا لم أهلع و لكنني رأيتُ الجميع يفعلون،رأيتهم يهرعون إلى البقالات ليفرغوا رفوفها و كأننا على شفير حرب،رأيتهم يتجنّبون الجميع و أعينهم تملأُها نظرة حذر،رأيتهم يغلقون الأبواب بوجه الزّوار،رأيتهم يعقّمون أيديهم في كلِّ حين،رأيتهم يتابعون أخبار الصّباح و المساء و كل الأوقات، و فجأة لم أعد أرهم. و حينها أدركتُ أنَّ وقت الهلع قد حان.
و بالفعل هلعتُ،أصبحتُ أتابع الأخبار التي لطالما مقتّها بل و أصبحتُ أنتظرها بفارغ الصّبر لعلّي أُدركُ وجهة القطار الذي ركبته قصراََ.
كنتُ أُتابع حالة المصابين بخوف و بعدها تحوّلت القضيّة إلى قضيّة أعداد،مجرّد أعداد في ازدياد،وهكذا أضحت أرواحهم مجرّد أرقام تدعونا للفزع.و هكذا عدنا للهلع من جديد.
أُغلقت المدارس و الجامعات و أضحت طرقاتنا التي لطالما ملأتها الحياة شوارع مهجورة.
طبّقنا الحجر المنزلي و أمسينا أسيري بيوتنا.
قرّرَ وزير التربية استكمال العام الدّراسي عن بُعد و هكذا زاد ضغط الطّلاب،ثمَّ عاد ليصرّح أنَّ الشهادات الرسمية قائمة ليعود الهلع مضاعفاََ بعد ضياع شهر دراسي جراء الثّورة.
رفض الجميع الإدلاء بإعطاء إفادات و لكنّهم لم يفعلوا حين تعلّق الأمر بسلسلة الرّتب و الرّواتب!
طلب وزير التربية إيصال الدّروس بأيِّ طريقة إلى الطّلاب و بالفعل لبّت الإدارات طلبه عن طريق إرسالها عبر الإنترنت ولكن ماذا عن من لا يملكون هذه الخدمة؟!
يبدو أنَّ الجّهات المعنيّة فكّرت بذلك و أعلنت أنَّ الدّروس ستبثُّ على التّلفاز في أوقات محددة مناسبة للجميع،فلنتجاهل أنَّ جهاز التّلفاز ليس متوفّراََ للجميع و لنركّز على أنَّ الطلاب ليسوا في جوٍّ يشجّع على الدّراسة،و بعد ازدياد مدّة العطلة القسريّة المرافقة للاحتجاز المنزلي ، أصبح الوضع لا يُطاق و لم تعُد الدراسة أولوية و لم تعُد كلمات أساتذتنا المشجّعة ذات أثر في نفوسنا لأننا خسرنا الأمل بالفعل.
طمأننا الأطباء أنَّ الوباء لا يفتك إلّا بالمسنّين و بمن يعانون من أمراض مزمنة و أمراض تسبب ضيقاََ في النّفس،ولكنّني متعلّقة بجدتي و أبي يعاني من أمراض مزمنة و صديقتي تعاني من الرّبو،و هكذا باءت محاولاتهم لطمأنتنا بالفشل. شعور الهلع أصبح جزءاََ من كياني.
اعتدتُ البكاء ليلاً بعد نوم الجميع لأعود صباحاََ و أُلوِّحُ للجيران بأوسع ابتسامة كاذبة و أنا أراقبهم يتصنّعون ابتسامة احتلَّ اليأس معظم أركانها ،ثمَّ أقضي معظم نهاري أُحاول إبهاج الجميع و إن حالفني الحظ أحظى بجولة في السيارة و أكون بذلك نوّعتُ في أماكن احتجازي.
اشتقتُ للجميع حتّى أنني اشتقتُ لأماكن التجمّع المكتظّة التي أمقتها و كم كرهتُ تخيُّلَ أننا قد لا نعود أبداً كما كنّا!
كم كرهتّ أنَّ فايروس لعين قادر على التحكّم بنا!وكم كرهتُ حقيقة أنَّ كل ذلك اختبار لصبرنا!و لوهلة تمنّيتُ لو أنَّ كل ذلك كابوسٌ مخيفٌ سأستيقظ منه عن طريق صوت أمّي الذي يناديني للتجهّز للمدرسة و أُقسم أنني لن أتذمّر و سأتجهّز بصدرٍ رحب.
بطريقة أو بأُخرى علينا الإقرار بأنَّ كورونا ليس وباءً عابراً بل هو مؤذٍ لأرواحنا قبل أجسادنا.
ابقوا صامدين لأنّكم أقوى من كل هذا...
أنت تقرأ
فتاةُ الحديد
Non-Fictionالصورة المثالية التي لطالما رسمتها للعالم لم تكن أكثر من مجرّد خيال عابر...