الفصل السابع

49 6 0
                                    

في بغداد فقط... تُسرق الحناجر .
إن فكرة العيش صامتاً مُرعبة ، ان ترى وتسمع كل من حولك ولكنك غير قادر على مشاركتهم أفكارك و ما يدور في ذهنك هي حقاً فكرة مُرعبة!
هكذا أرادوا حبس أفكاري ، جعلوني خرساء ولكن لم يستطيعوا إخراس قلمي .
قبل ثلاث سنين من الان وفي طريق العودة الى المنزل من المستشفى التي كُنت أعمل فيها ممرضة حيثُ أمي واخي واختي بانتظاري على العشاء... فجأة سقطتُ أرضاً وسط ضجيج الراكضين وحرارة النيران ، صراخ الاطفال وآهات الجرحى! ثُم احتل السواد عينيّ و غاب وعيي.
كان ذلك انفجاراً لسيارة مُفخخة كانت بالقرب مني! اخترقتْ الشضايا رقبتي و استقرت في حلقي حتى أصبح على أمي اختيار موتي او استئصال جزء من حنجرتي فأعيش بلا صوت... اختارت أمي ان أعيش صامتة دون موتي لأنها تعلم إنني استطيع النجاة.
بعد ذلك الحادث لم يعد مُرحباً بي في مهنتي فلا توجد ممرضة بكماء! هذا ما وصفوني بهِ.
أنا لستُ بكماء... أستطيع تحريك شفتاي وفق الكلمة التي أود نطقها ولكن دون صوت... حروفي بلا صوت .

بدأت أفكاري تنتفضُ كونها قد حُبِستْ دون ذنب ، لذا تماماً كما قالت أمي وجدتُ قلمي هو لساني الذي أنطقُ بهِ ، والقلم أسمى منزلةً بل إن القلم هو مَن يوجّه اللسان.
هكذا أصبحتُ أترددُ يومياً على مقهى رضا بن علوان حيثُ الناس اللذين يمتلكون ألسنة قلمية.
هذا الحادث كان قبل سنتين من لقائي الأول بفوتيا ، حين تحدثنا لأول مرّة لم يستغرب ابداً كوني أتحدث بلغة الاشارة فظننتُ أنه يحاول ان يكون طبيعياً معي حتى لا يحرجني! ولكنه ليس كذلك ، أخبرني لاحقاً انه كان يعلم مسبقاً إنني بلا صوت و قد تعلّم لغة الإشارة لأجلي.
والحقيقة ان فوتيا يعرفني قبل ان اعرفه ، كان يراني في المقهى قبل ان انتبه له... ويعلم انني أتواصل بالإشارة لذا قرر ان يتعلّمها عن طريق الإنترنت ونجح في ذلك.

***

بعد مرور سنة على وفاة أمي...
أستيقظتُ صباح يومٍ على رسالة من فوتيا كتبَ فيها:
" وردتي الجميلة... هل تذكرين حين جلستُ في المقعد المجاور لكِ في المقهى احملُ الرواية ذاتها التي بين يديكِ؟ كنتِ مُغرية جداً بذلك القميص الستان الأبيض ، فتحتِ ازراره العلوية فبرزتْ ندوب عنقكِ... كم انتِ باذخة الجمال يا ورد... حتى ندوبكِ وصمتكِ! حين بدأنا الحديث فأجبتِ مشيرةً بيديكِ الناعمتين... وبينما انتِ لاهية في التأشير بهما أنا أصارع نفسي في عدم القفز و إلتهامهما ، يا ذات الأصابع الرفيعة.
أحبُ فيكِ دهائكِ المُعقّد، و محاولاتكِ في ان تكوني امرأة عادية... لستِ عادية يا ورد، انتِ مثالية جداً في عالمٍ ممتلىء بالنواقص .
مغرمٌ بكِ يا ورد... مغرمٌ بصمتكِ الرقيق وبتلك الندوب التي زينت عنقكِ وكأن الشضايا قد قبّلتكِ!
شهيةٌ شفاهكِ حين تحاولين تحريكها وفق الكلمات التي تودَّ ان تخرج من فاكِ ، فأُحدِّق بهما ليس رغبةً في فهم ما تريدين قوله وإنما استغلالاً للموقف عسىٰ ان أصل للشبع فلا أصل .
تتسعُ عيناكِ كثيراً حين تُأشّرين كأنها ستنفجر بأفكاركِ!
مغرمٌ بأتساع عيناكِ و تعابير وجهكِ حين تطرأ في ذهنكِ فكرة ما فـتنهمكين في محاولة إيصالها لي بكل حواسكِ ، و إذا عجزتِ تُخرجين قصائص أوراقكِ وتكتبيها.
جميع أوراقكِ محفوظةٌ عندي! جعلتُها الدليل على عنادكِ و نرجسيتكِ.
لو تعلمين إنني افهمكِ دون هذا الجهد العظيم ، لو تعلمين إنني قابعٌ في داخلكِ.
احبكِ يا ورد و اتمنى العيش بجواركِ إلى الابد ."

هذهِ هي المرّة الثانية التي يعلن فيها فوتيا غرامهُ بي ، المرّة الأولى كانت حين كُنّا جالسين على ضفاف نهر دجلة يقرأ لي رواية "قواعد العشق الاربعون" بصوتهِ الجهوري الذي أختلط مع نسائم ليل أبريل ، يعتلينا بدرٌ كبيرٌ مُنعكسة صورته على مياه دجلة الهادئة على غير عادتها وكأنها تستمعُ لفوتيا ايضاً ! الذي فجأة أغلقَ الكتاب وقال: انا احبكِ يا ورد.

حينها عدتُ الى المنزل وتركتهُ خلفي يشكي ألمه لدجلة.
ولكن كتبتُ له تلك الليلة:
- أنا الأم لزياد وديانا الان ، لن اتزوج يا فوتيا.

- كيف تكونين أمهم وانتِ الصغرى؟

اجبته :
- الأمومة شعور غير مرتبط بالعمر... يُمكن لفتاةٍ في العاشرة ان تعامل قطتها على انها ابنتها او طفلةٍ في الرابعة ان تشعرُ بالأمومة بسبب لعبتها!

- لم اقصد هكذا ولكن لو كانت والدتكِ موجودة لـتمنت زواجكِ و استقراركِ يا ورد كما ان اخوانكِ ليسوا صغاراً.

ولكني ظللتُ خائفة... خائفة من فكرة تغيّر الأحوال ، تبدّل المشاعر و تغير النفوس!
"لا يبقى الشيء على حالهِ" هذا ما قالته لي أمي حين بكيتُ على صوتي المفقود بعد استيقاظي من غيبوبة الحادث...
كانت تقصد عسىٰ ان يعود صوتي مجدداً او يجد الطب الحديث طريقة تجعلني اتكلم... إلى اليوم لم يجدوا !
أصبحتْ جملتها القاعدة الأشد رعباً في حياتي والغريب انها تنطبق على كل شيء ، فلا يوجد شيءٍ بقي على حالهِ!

***

خلال سنة واحدة جاءت أختي ديانا تشتكي خيانة زوجها ثلاث مرات!
وفي جميع المرات لم اقل لها اتركيه، لذا حين كانت تشكي و تبكي أجلسُ ساكنة... ثُم يأتي زوجها معتذراً واعداً لها بعدم تكرار فعلته فتسامحه وتعود معه.
إن عفونا لخطايا الأخرين مراتٍ عديدة يزيد من رصيد حُبنا في قلوبهم بينما يقلل من رصيد حبهم في قلوبنا ، لذا حين نقرر الرحيل سيكونون عاشقين لنا بينما نحنُ نراهم جحيمًا لا خير فيه.

وهذا ما حدث مع ديانا... غفرانها المتكرر له لم يستمر ، أنتهى رصيد حبهُ في قلبها فقررت تركه!
تطلّقت ديانا بعد زواجٍ دام سنتين خلّف امرأة مكسورة الجناح تحتضنُ طفلها الذي سيعيش مُهمّش ، شبه يتيم ولا ذنب له سوىٰ ان والديه اغبياء...

مرآة أُميحيث تعيش القصص. اكتشف الآن