ذكرى ديسمبر ٢٠١٩

671 84 66
                                    

صباح الخير يا مذكراتي العزيزة، اليوم عندما كنتُ أقرأ كِتاب وصايا للمؤلف محمد الرطيان إستوقفتني وصيةٌ و هي :

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.


صباح الخير يا مذكراتي العزيزة، اليوم عندما كنتُ أقرأ كِتاب وصايا للمؤلف محمد الرطيان إستوقفتني وصيةٌ و هي :

[سيء هذا الذي لا يتوقف عند الحادث ليُقدم المساعدة الممكنة ..
‏والأكثر سوءًا هو ذاك الذي يتوقف عند الحادث .. ليتفرج !]

قراءتي لتلك الكلمات أعادتني بالزمن إلى الوراء لساحة الكلّية عام ٢٠١٩ ..

في ذلك الوقت كنت أتمشّى في الساحة الخارجية وأتأمل إنعكاس الغيوم على زجاج المبنى ، أستمع لموسيقى كلاسيكية والنسيم البارد يسرّح شعري بنعومة، كنت قد خرجت لتوّي من محاضرةٍ دَسِمة فرغبت باستنشاق الهواء الطلق..

وفي تلك اللحظات مرّت أختي ملاك Byun_Malak من جانبي فجأةً وبسرعة شديدة وأرعبتني ملامح وجهها القلقة ..

فقررت تتبّع خطواتها المسرعة لأتفاجئ بأنها قد دنت نحو إمرأةٍ كبيرة في السن كانت قد سقطت من الكرسي المتحرك اثناء النزول على وجهها ..

ما صدمني وجعلني اشعر بالحنق الشديد هو أن المرأة الشابة الممسكة بالكرسي المتحرك من الخلف لم تتحرك قيد انملة! والطالبات المتجمهرات كالمتفرجات يراقبن اختي تجاهد بمحاولة فاشلة بمساعدة المسنّة على الجلوس ، كل هذا قد مرّ بلحظات..

فجسدي قد تحرك دون وعي مني وهرعت نحو الحادث .. ركعت بجانب أختي وسقط هاتفي على الأرض لأتشبّث بالمرأة المسّنة اساعد اختي وبصعوبة على إعادتها للكرسي، كل هذا حصل وسط مشاهدة الآخرين دون ان يتزحزح احدهم ويمد يد المساعدة!

وحين أجلسناها على الكرسي اغرقتنا بالدعوات بصوتها المرتعش وكان الغبار يغطي ركبتيها ..

نهضت أختي وابتعدت عن المكان فبقيت أنا أمسح عن ركبتيها الغبار وأقوم بتدليكهما بينما لا زلت ارتعش خوفاً وقلقاً عليها..

وحُنقاً ايضاً.. من تلك المرأة الممسكة بالكرسي من الخلفي والتي رغم انها شكرتني ولكنني لم ارغب حتى بالنظر اليها كي لا يزداد غضبي .. وبعدها قامت المرأة بسحب كرسيها عن التجمهر ..

ونهضت انا ألملم حطام هاتفي .. فوضعته في جيب معطفي الطبي .. وحين سمعت أحداً ينادي اسمي رفعتُ رأسي نحوه .. وإذ بإحدى زميلاتي في التمريض ترفع ابهامها لي .. حينها ادركت الوضع .. المتجمهرين لازالوا يحدقون بي كما لو انني بطلة .. رغم ان مافعلناه انا واختي واجب انساني قبل ان نكون ممرضة تساعد المرضى وطبيبة اسنان .... واجب انساني كان المفترض ان يقوموا هم به .

فهممت بالتوجه الى البوابة كي أحضر محاضرتي.. واثناء سيري للبوابة كان طريق المرأة المسنة برفقتي.. فقامت بالتلويح لي وهي تواصل نثر دعواتها الصادقه على قلبي المُثقَل وبفضلها توقفت عن التفكير ببرود ردات فعل الطالبات والاتي كان اغلبهن طالبات تمريض وعلاج طبيعي.

وحين دخلت الساحة الداخلية صمتُّ قليلاً افكر .. عاد شغفي تجاه التمريض بسبب هذا الموقف .. استشعرت حقيقة كون ان العطاء إستلام .. والإستلام يبدو كأنه عطاء .. التمريض هو المهنة التي سأستمر بالتمسك بها حتى ولو بدون مقابل.. ومنذ صِغَري املك تلك الرغبة بمساعدة الغير على الرغم من اني قد كنت انطوائية.. لكنني أرتجل وأتجرأ واتدخل في مثل تلك المواقف .. لم تكن انطوائيتي رادعاً .. ولن تكون .. فأنا احببت نفسي حقاً حين تخصصت تمريض ..

فحين قمتُ بتغطية رجلٍ مُسِن أحببت نفسي وشعرت بالرضى تجاهها، وشعرت ايضاً ان وجودي كالبلسم في هذه الأرض ..

وحين امسكت بيد إمرأةٍ تعاني آلام المخاض وبقيت بجانبها حتى إنتهى الوجع.. احببت نفسي اكثر ..

وحين لوّحت لصديقي الراحل راشد وتعرفت عليه .. واشتريت له الألعاب وآنست وِحشَتَه .. احببت نفسي أكثر .. واحببت التمريض اكثر

وحين رَحلَ راشد، و دُفِن جسده الضئيل .. أدركت أن التمريض كالفصول المختلفة.. سيأتي فصلٌ ربيعي حين اضحك مع المريض .. وسيأتي فصل الشتاء الصقيع حين يتألم المريض .. وسيأتي فصل الصيف حين ينتهي الألم مؤقتاً .. وسيأتي الخريف الكئيب حين تذبل روح المريض ويموت .. سنبقى نحنُ فقط وذكرياتنا مع مرضى ودّعونا .. سنعاني وننكسر ونقف ونتناسى.. سنكمل المضي في الحياة ونقرر بنضج ألا نتعمّق بحياة المريض ونبتعد حين شعرنا اننا انغمسنا في تفاصيلهم اكثر.. لأننا بشر .. حين نتعلّق ونفقد سننكسر ونعاني ..

هذا هو التمريض، فصوله عديده وعلينا التأقلم كي نجيد التعامل معه ..

ومهما قابلتُ من مرضى، سيبقى راشد مريضي الأول .. ومهما خسرت من مرضى .. سيبقى راشد خسراني الأول ..

وأعِد نفسي يا مذكراتي، بأنني سأتمسّك بشغفي تجاه التمريض حتى النهاية، وسأصبح اخصائية تمريض ناجحة تلبّي نداء المكسورين والمتألمين والمرعوبين.. لأن الناس للناس.. ومازالت الدنيا بخير  .

مذكِّرات طالبة تمريض ☤     حيث تعيش القصص. اكتشف الآن