(6)

2K 98 18
                                    

بقلم نهال عبد الواحد

بعد يومٍ طويل من العمل، الجهد، الحديث، الازدحام، دلف بيته المظلم الهادئ، المناقض تمامًا لما خارجه، خطا خطوات، أضاء مفتاح الإنارة لمصباحٍ واحد فقط، خلع نعليه ثم سار على هدي الإضاءة الخافتة حتى حجرته.

بعد قليل اتجه نحو الحمام ليغسل عناء وتعب اليوم، هاهو أسفل مرش الماء، يفرك جسده نظافةً وللاسترخاء، ربما يتخلص من الجهد والعناء، لكن لا زال داخله يخفي أجزاء، يعيش وحيدًا في فراغٍ عملاق، يشعر بروحه فجأة وقد صارت خواء.

أغلق الماء، لف منشفته حول وسطه، أخذ الأخرى جفف بها خصلات شعره، فتح الباب وخرج، وقف أمام حجرة مغلقة، أمسك بكفه مقبض الباب، أسند رأسه للحظات ثم أدار المقبض ببطء وفتحه.

أنار النور فإذا هي حجرة نوم قديمة لكنها جميلة، تجول برماديتيه في كل ركنٍ فيها، شعر بحنينٍ جارف للماضي، لأناسٍ رحلوا وتركوه وحيدًا.

ركّز رماديتيه على هذا السرير البُني، لمح طيف امرأة متكئة عليه ممددة الساقين أسفل الغطاء، تحيّك بيديها ثوبًا صوفيًا رمادي اللون بإبرتين التريكو، مستلقيًا على بطنه جوارها طفلها يكتب واجبه المدرسي، تتفقده من حينٍ لآخر، بينما هو يعبث بقدمه بكرة الصوف من حينٍ لآخر، فتهسهس له أمه، تناديه بعد قليل، يعتدل جالسًا، تضع على ظهره الثوب غير المكتمل تقيسه عليه لكنه لا زال قصيرًا عليه، لا زال يحتاج للزيادة، تربت عليه فيعود مستلقيًا يكتب واجبه، وتعود هي تكمل ثوبه...

زفر نفسًا حارًّا مغمضًا عينيه بقهر، تفقد الأثاث برماديتيه فلاحظ بعض الأتربة، فأمسك بخرقة قطنية، مسح الأتربة من فوق أثاث الحجرة، خاصةً هذه الصور الفوتوغرافية المعلّقة، مسحها بعناية شديدة مع مزيد من التنهيدات الحارة، صور لرجل، امرأة، طفل في أعمارٍ مختلفة، تلمّس صورة الرجل والمرأة بحنينٍ كبير، تمتم مغمضًا عينيه، أطفأ الإضاءة وغادر مغلقًا الباب.

دخل حجرته، كانت بسيطة للغاية، مجرد سرير وخزانة ملابس بنية واجهتها مرآة، أخرج منامة منزلية صيفية وارتداها، قبل أن يغلق خزانة ملابسه، أدخل يده في أحد أقصى جوانبها مخرجًا الثوب الصوفي الرمادي، أمسكه بيديه واحتضنه مغمضًا عينيه، شعر بروح أمه حوله تضمه وتربت عليه، طواه وأعاده مكانه...  أجل، كان هو ذلك الطفل...

بعدها اتجه إلى المطبخ أخرج من الثلاجة إناء صغير وضعه على الموقد، بعد قليل وضع طعامه وجلس يتناوله على منضدة بالمطبخ، يبتلع اللقمات بتثاقل وصعوبة بالغة، حقًا الوحدة هكذا شيء قاتل، سرعان ما نهض، غسل طبقه وعلّقه، أخذ الممسحة ومسح الأرض، خرج يتفقد أثاث الشقة وأرضيتها ربما تحتاج لبعض المسح، لكنها نظيفة...  للأسف لا شيء يقتل به وحدته في هذا البيت الفارغ.

صنع لنفسه كوبًا من الشاي ثم دخل حجرة أخرى، عبارة عن مكتب صغير ومكتبة خشبية كبيرة بحجم الحائط كله مملوءة بكم هائل من الكتب، وضع كوب الشاي على المكتب، وقف أمام المكتبة يسير بإصبعه يختار كتابًا يقتل وقته حتى يقتحمه النعاس.

(سيظل عشقك مرادي)   By:Noonazadحيث تعيش القصص. اكتشف الآن