الفصل الأول

356 11 1
                                    

#قبور_ناعمة
الفصل الأول

خيوط الدماء تطعن الأرض البيضاء، يلف مرآها نحيب مستعر، يتخلف عن ذلك الفراش بدواليبه الصغيرة، تدفعه أيادٍ يتشح أصحابها بياضا ملوثا بدمائها، بينما ترقد أعلى الفراش صامتة باهتة، يقطر جبينها عرقا كحبات مطر، وقف لاهثا، وجهه كقطعة من لهيب ويا للعجب ! لهيبا يفرز ماءً، يتحدر كنهر جارف متحدا مع دموعه الصارخة، أسند ظهره على الحائط خلفه رافعا رأسه للأعلى و روحه تناجي خالقها بما عجز لسانه أن ينطقه، وعجزت الكلمات أن تصوره .
جلست أمها وقد أحنى قامتها الأبية فزعها، ترى ابنتها توشك على الغرق في بحار الموت حيث لا رجوع، أخرس قلبها ألمه، ووخزتها أمومتها في مآقيها فنزفت دمعا على حال ابنتها، أشفق عليها كما هو مشفقٌ على نفسه، فذلك الرعب المكتسح أوصالهم خوفا من فراقها يصعب أمامه الصمود .
نظر للأبواب التي اختفت وراءها وقد هاجمته الذكرى، أول لقاء لهما، أول مرة تلاقت حدقتاهما لتسر في عروقه رعدة لم يكن ليفسرها آنذاك .
دخل مع صديقه تلك الغرفة القاتمة منخفضة السقف، بأرضها الأسمنتية السوداء، يغلف أجواءها رائحة التراب القادم من الحارة الصغيرة، فلا وجود للهواء، ولا زارتها الشمس، كل أثاث تلك الغرفة حصيرة قديمة، و(طبلية) خشبية قديمة مستندة على الحائط بخربشات بقايا لونية من دهان قديم يبدو أنه كان أزرقا . انتظر قليلا قبل أن يدخل عليهم ذلك الرجل النحيل بجلبابه المتسع يكاد عظمه يبرز منه، ممسكا بيده فتاة برغم دموعها صبوحة الوجه، يجذبها من ذراعها بقسوة، ينهرها بسباب قذر، يصرخ إخوتها الصغار بالداخل فينهرهم بقسوة دافعا إياهم داخل الحجرة الأخرى، أوقفها أمامه بوقاحة ودفعها تجاهه حتى كادت تسقط في حضنه فتلقفتها ذراعاه، فانتفضت ليعاجلها الرجل بوكزة تؤلمها فتمسك بذراعها وتتماسك حتى لا تنطلق من فمها أنات الألم، وقفت ترتجف ولا تدري هل ترتجف بردا أم ترتجف خوفا أم يأسا و بؤسا .. على كل حال هي ترتجف وتحاول ستر جسدها الذي ربما قد يبدو منه جزءًا من قطع في ثوبها القديم المهترئ، ترفع كفها لتزيح شعرها الثائر معلنا تمرده يأبى أن ينتظم في مكان واحد فانتشر تشده جذوره، ليرتمِ على وجهها وخلف ظهرها وعلى أذنيها، فتتجلى عيناها السوداوان الواسعتان تحيط بهما استدارتان داكنتان تفضحان عدم نومها، واحمرارا يطلي بياض عينيها أثر البكاء.
خرجت كلمات الرجل من فمه القذر بين أسنانه السوداء المتكسرة وهو ينفخ دخان سجائره:
- جس بدنها .. ستعجبك على أية حال .. صدقني .
قالها وهو يلكزها بعنف لتندفع رغما عنها للأمام، فيضع يده على قدها ليسندها فتنتفض، فكان جزاؤها صفعة من كف والدها :
- قفي جيدا حتى يعاين الرجل، أم أنك تريدين أن تظلي عالة علينا .
تحت تأثير كلماته كتمت شهقاتها، وتمسكت بثوبها أكثر مغمضة عينيها، قبل أن ترتج طبلتي أذنيها بكلماته مكملة عرضها :
لن  تجد مثلها .. إنها عذراء و صغيرة، وما طلبته ليس كثيرا، ولكن عليك أن تأخذها لشهرين كاملين وتشتري لها الثياب بعد أن تنقدني المبلغ الذي أخبرتك به سابقا .
رد صديقه :
هل جننت ؟!
أسكته مشيرا بيده، وهو يقول :
أنا لا أقرب الحرام، سأتزوجها فلا يجوز أن تخدمني و أنا وحدي وليست تحل لي، لا دخل لي بنخاستك .
مد يده لصديقه فوضع بيده رزمة مالية :
هذه عشرة آلاف، وسأعطيك الباقي حين آخذها، سأبعث لها أم حنين لتر اللازم .
وضع المال بيده وانصرف لا يعنيه رفضه أو موافقته .
عادت لتبك جوار إخوتها و أمها في ركن تنتحب ويشاركونها الانتحاب و نشيجها الحار يلهب جوفهم الذي لم يمسه الطعام ليوم و ليلتين، تربت على أكتافهم الصغيرة العارية ويربتون على كتفها النحيل .. مواساة من متألم يشعر بذات القهر .
نامت ليلتها والأحلام تهذي برأسها، وعينا أمها بحران من دماء صامدة، تبكي حال ابنتها وقلة حيلتها، لا تدري أتمت البيعة ولن ترى الفتاة مرة أخرى؟ أم أنها نجت بخروجها من يدي الفقر وجاء الفرج ؟ !
وبينما هي نائمة تتسلل دمعاتها قسرا من أحلامها، كان هو يتقيأ وقد استولى القرف على شعوره، منحنٍ ينتفض وتختلج عضلاته تضامنا مع معدته المعترضة، ويتساءل كيف له أن يتورط بهذه القذارة؟ رأى نفسه مساندا للنخاسة راعيا لتجارة الرقيق .. دخل غرفته طارق سكرتيره وصديقه :
أما زلت تتقيأ ؟
ألم تر ما تورطت به ؟
حقا إنه رجل فاسد، كيف يفعل هذا بابنته؟! أمتأكد أنت أنها ابنته ؟
شهادة ميلادها توثق أنها ابنته .
وماذا تنو أن تفعل بعد هذا ؟
لست أدري .. سآخذها وأنا ذاهب للقاهرة وسأنقل أوراق مدرستها وأفكر كيف سأستطيع أن أتخلص من وقاحة هذا الشيطان .
أخبرتك من قبل أن الطريق وعر .
لابد لي أن أمشيه .. أخبرني الآن كيف سأخبر أمي ؟
ماذا قلت لها من قبل ؟
قلت لها أنني أبحث عن خادمة لتتولى أمر البيت حين أذهب للعمل .
إذن قل لها أنها خادمة .
وماذا عن عقد القران ؟
أخبرها أنك لا تريد أن يحدث شيئا ما محرما، وأنك تخشى أن يسترجعها أهلها، وأنك حين تفكر بالزواج ستطلقها .
لن تقتنع، أنا نفسي لست مقتنعا .
يا حبيب، كل ما كان يهمك أن تكمل طريقك، وتسعى لإنقاذ الفتاة بعدما علمت أن أبيها ينتو أن يعرضها على الرجال مقابل المال .. ليس مهما أن تقتنع الآن، المهم أن تصل لما تهدف إليه .
فعلا .. عندك حق .

قبور ناعمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن