الفصل الثاني

125 6 0
                                    

#قبور_ناعمة

وكأنَّ الحياةَ تغضبُ في وجهِ الفرحِ حينَ يطرقُ أبوابَنا، وكأنَّ الحزنَ قابعٌ لا يزول، تفترس أيامُ الحزنِ دقائقَ الفرحِ، تخْنِقُ لحظاتِ السعادةِ فلا تطول، ذلك عهدٌ قطعَتْه على نفسِها الدُنيا لتدنُو أكثر ناسيةً أنَّ الحياة لا تحلُو إلَّا إذا جاءَ الحب عابرًا كُلَ الجُسور .
خرجت وهي في حال لتعود بحالٍ أُخرى، ينتشر البشر على محياها، ويرسم السرور آثاره على شفتيها وعلى لمعة عينيها الواسعة، عادت تحمل في يدها العديد من الحقائب الورقية، والأكياس البلاستيكية، ممتلئة بملابس وزينة العروس، شعرت بالفرح بعدما تسلل اليأس قارصا قلبها واعدا إياها بالفشل والضياع، ولكن هيهات أن تتركها ساعات الألم تهنأ بالمزيد من الأمل، ما أن رأت أمها على الأرض حتى صرخت رامية كل ما بيدها على الأرض، انحنت فوق أمها وانطلق سراح دموعها الوفية، أوجعتها تلك الآثار الزرقاء تملأ وجهها، والدماء تغطي أنفها وفمها، ولا زال الأطفال يقفون في ركن الغرفة لا يفعلون شيئا سوى الارتجاف والتحديق بأمهم الملقاة بلا رحمة على الأرض .
- أمي .. حبيبتي .. ماذا حدث لكِ ؟ أجيبيني .. لا تتركيني يا أمي، أرجوك أفيقي .
تحركت الأم وهي تئن، عينيها مغمضتين .
- أمي .. هل أنت بخير؟ أفيقي .
بكت الأم وهي تئن بصوت أوضح :
- أنا بخير يا حبيبتي، فقط لم أستطع أن أمنعه ....
زاد نحيبها وهي تكمل :
- لقد أخذها عنوة مني، ماذا سنخبر خطيبك .. بم سنبرر غياب السوار؟
- لا عليك يا أمي، الحمد لله أنك بخير .
قالتها ومدت ذراعاها للصغار الذين ما أن أتتهم الدعوة بدأوا في بكائهم وهم يلقون أنفسهم في حضنها، أي ظلم وأي افتراء هذا الذي يرون، بدأت في داخلها تلقي اللوم على نفسها أنها يوما تمنت عودته بدلا من يتمهم بدونه .

لملمت حاجياتها من الأرض، وجلست كجلستها قبل أن تطعم قليلا من الفرح .. قبل أن تحيا شيئا من الأمل، عقصت شعرها مقيدة إياه لتمنعه من الحرية أو الفرحة، عيناها تجوبان الغرفة ولكنها لا ترى شيئا سوى القهر، قاطعها طرق الباب فقامت تنفض عن نفسها كل مشاعرها، فتحت الباب فوجدته أمامها، ارتبك لمرآها :
- هل والدك موجود ؟
- نعم .
تركته واقفا وغادرت بلا كلمة لتوقظ تلك الجثة الظالمة فوق حصير الغرفة، هزته من كتفه فأفاق:
- ماذا تريدين ؟
لم ترد ولكنها أشارت إلى الباب حيث يقف، انتفض والدها قائما ومهللا :
- أهلا .. أهلا بالنسيب .
لم تعجبه الكلمة، ود لو أنه تراجع، ولكن كيف ؟
- أهلا بك، جئت لنكمل باقي اتفاقنا .
- تفضل بالجلوس أولا .
أحضر من غرفتها المقعد الوحيد لديهم وقدمه له، اقشعر بدنه لما اقترب منه، ولكنه سيطر على أعصابه ليتم ما جاء من أجله، جلس ليجد أحد الأطفال واقفا أمامه صامتا ينظر له مبهورا، يبدو أنه أخيها فهو يشبهها تماما، يشبه أيضا بؤسها، مد له يده بالسلام ولكن الصغير مد له اليسرى، ضحك ملء فيه وجذبه وقبل رأسه :
- ما اسمك ؟
- عُمَيْ .
- عمر .. اسمك جميل .
أخرج من جيبه نقودا ليعطيها للصغير، إلا أن الصغير هز رأسه رافضا، واضعا يديه خلف ظهره .
- لم لا تأخذها مني وتشتري الحلوى ؟
- أمي ستضيبني "تضربني".
- لم ؟
نحن لا نأخذ أموايا "أموالا" من أحد، وإذا علمت أمي ستضيبني .
- كيف تضربك ؟! ما زلت صغيرا .
- لا، أنا كبيي "كبير" .
ما دمت كبيرا فخذها من صديقك، ألست بصديقك ؟
- بيى "بلى"، ولكن حتى وأنا كبيي تضيبني .
- سأخبرها ألا تضربك .
- سيخبيَّها أبي، ويبما يأخذ النقود مني كما أخذ السوايّ (سيخبرها أبي، وربما يأخذ النقود مني كما أخذ السوار) .
انصرف الطفل هاربا ما أن رأى والده مقبلا، فوقف حبيب وقد تراكمت بعقله الأفكار وزادت الظنون، يا لها من عائلة كل ما فيها مؤلم لدرجة القرف .
- هيا يا النسيب .

قبور ناعمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن