الفصل الثامن

81 6 0
                                    

#قبور_ناعمة

يأتي الليل فتسكن كل حركات النهار، وتهدأ كل الضوضاء، ولكن ضوضاء من نوع آخر تبدأ، الكل يصمت ويهدأ، ويتبقى الفكر ناشطا، كل عقل بما فيه يدور، وكل قلب بما يحمل مثقل، فبعد إنهاك السعي لا يقصد الإنسان سوى الهدوء والراحة، ولكن هيهات .. محض تمني أن ترتاح نفوس يؤلمها ما تقاسيه، وكأن الليل أتى معاقبا على الإشراق نهارا، فأقسى عقاب هو الإجهاد والتمزق بين انقضاء النهار وحلول الظلام .

تأخر حبيب وأُذن للفجر ولم يأتِ بعد، لفظها الفراش فتجنبته، وأنهكتها الأفكار، تكورت على نفسها في الأريكة كما اعتادت أن تفعل، وقضمت شفتيها بقلق، ساومتها نفسها أن تهاتفه، وكرامتها حاربتها بضراوة، وجال الشيطان برأسها يصور لها شتى أنواع المفزعات التي قد تكون حدثت له وهو قادم، وبينما هي في جلستها يحاول النوم أن يثنيها عن الانتظار وما أن تغمض جفنيها حتى تفزع من أفكارها، وقفت في الشرفة لعل هواء الصبح يرطب جفاف أرقها .
- استيقظتِ باكرا مثلي .
- نظرت للصوت فوجدتها الفتاة :
- لم أنم بعد .
- بالأمس نسيت أن أعرفك على نفسي، أنا هبة .
- سررت بمعرفتك، أنا هالة .
- ما الذي أطار النوم من عينيكِ .
- زوجي سافر للبلدة وتأخر في العودة .
- زوجك!! هل أنتِ متزوجة ؟
- نعم، الفتيات في بلدتنا يتزوجن مبكرا .
- مبكرا جدا، هل تحبينه ؟
- بالطبع أحبه فهو زوجي .
- لست أسأل عن هذا، هل أنت سعيدة بزواجك هذا ؟
- لست أدري، أحيانا أشعر أن هذا أفضل ما حدث لي، وأحيانا أشعر أني كنت لأبقى بخير لو تابعت دراستي بعيدا عن الزواج .
- ربما كان قاسيا معك .
- لا، ليس قاسيا، لكني لست معتادة على تحكم الأزواج بعد .
- هل الزواج تحكم ؟ لقد بدأت أخشاه .
- لست أدري حقا، أهو تحكم أم خوف وحماية ؟
- هذا محير، كنت لأتمنى ألا أتزوج مبكرا هكذا دون أن أعرف زوجي مسبقا .
- لا أعتقد أننا نعرف الآخرين حقا، فحبيب كان مختلفا أول ما رأيته، وبعد مرور الوقت أصبح هادئا حانيا ولكني لا زلت أخشى ردة فعله أحيانا .
- هل حادثتيه في الهاتف ؟
- هو حادثني بالأمس يخبرني بتأخيره .
- إذن لا تقلقي، ربما الطريق مزدحم، هل آتي إليكِ نتسلى حتى يأتي ؟
كادت ترد بالإيجاب، ولكن توصية حبيب ترن في أذنها :
- سأنام قليلا لأني متعبة، ربما نجلس معا في وقت آخر .

- أخبرني يا ولدي، أخبرني كل شيء .
- يا أمي، أنت متعبة، وهذا الحديث سيرهقك أكثر .
- أكل هذا العمر معه وأنا لا أعرفه ؟!
- لا داعي لهذا يا أمي، إنه الآن بين أيادي الرحمن، لندعُ له بالرحمة لعل الله يغفر له .
- ماذا هناك أيضا ؟ لا تخفي عني شيئا .
- لا شيء، أنا فقط بعتُ سيارتي، فلن أتقاضى راتبي قبل انتهاء الشهر .
- ضاع كل شيء .
- لا يا أمي، نحن بخير، البيت موجود، ومعاشك موجود، وأنا أعمل ولن نحتاج شيئا .
- كيف علمت ؟
- بعد وفاة والدي ببضعة أيام أتى في المنام، وجهه أسود، يبكي، وجسده مليء بالجروح وثوبه ممزق، صرت أفزع من نومي وكلما أغمضت عيني رأيته في تلك الهيئة، فتصدقت عنه ودعوت له بالرحمة، ولكني رأيته مرة أخرى، سألته : ماذا حدث لك ؟ أخبرني أن القبر مليء بالصخور .. خشن، كلما دخله مزق لحمه، وسألني : هل لك أن تزيلها من قبري لأرتاح ؟ لم أفهم إلا أنني في المساء قابلت أحد الذين ابتعنا منهم أرضهم قبل وفاة والدي، فلما سلمتُ عليه لم يرد السلام، تعجبت وسألت عن الرجل ففوجئت بما حدث، فأخرجت أوراق كل ما ابتعناه من أراضٍ وسألت عن أصحابها فإذا هم جميعا باعوه الأرض قسرا، في نفس الوقت طالبت شقيقتاي بنصيبهما في الميراث، فلم يكن أمامي سوى أن أعطيهما كل ما أستطيع الوصول إليه، وعرضت الأرض للبيع، وأعطيت أصحاب الأراضي حقوقهم حتى رضوا بالمسامحة .
- وماذا عن زوجتك ووالدها ؟
- ذهبت لأبحث عن والدها على المقهى، فسمعت عنه أشياء لم تسرني، هو بالأساس من عرض الأرض للبيع، لكن أبي خدعه في قيمة الأرض، ولأنه كان سكرانا لم يهتم، ولو علم أنني أرد له باقي ماله لطمع في أضعافه، وكان يبحث لابنته عن عمل كخادمة، فأقنعته أن يزوجني إياها ويأخذ المال، أنا فقط كنت أنقذها وأتعلل بها ليس أكثر .
- لهذا لم تدعها تعمل بالبيت، حتى لا يكون المال مقابل عملها .
- أجل، هذا السبب الحقيقي .
- أصدقني القول، هل أنت .. تزوجتها حقا ؟
- لا، اطمئني يا أمي، حين أتزوج سأجعلك تخطبين لي، وأظن هذا لن يحدث حاليا، أوضاعي المادية لن تسمح بالزواج، فليس معي ما أدفعه مهرا أو أبتاع به أثاثا يليق بعروس .
- يحزنني حالك يا ولدي .
- لا تحزني، كل ما يهم الآن أننا تطهرنا من مال حرام، وأن أبي يرقد في قبره وقد سدت ديونه، لعل الله يرحمه .

قبور ناعمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن