الفصل التاسع عشر

64 4 0
                                    


اهتز بيده كوب الشاي الساخن لينسكب على رجله حارقا إحساسه، قرصه شعور الخوف فارتجفت أوصاله، وقاده فكره لكل الطرق الموجعة ليعبث الشيطان في رأسه بألف ظن، ويجتاحه طوفان من القلق يغرقه ويدفن بقايا أمل كان يبرق بداخله .
وفي نفس الوقت تجلس مسترخية تفكر فيما فعلت، تراجع تحركاتها وتسأل نفسها إن كانت محقة، وتحاول إدراك السبيل للوصول إلى مبتغاها بلا تنازل عما تريد، سكنت الطمأنينة شرايينها أن ولدها بعيدا عن يد الغدر، وفجأة اقتحمت صورة رائف مرمى بصرها لتحجب عنها كل ما كانت تخطط له، كيف شعرت بالأمان وهي مهددة بولدها ؟! انتفضت من مجلسها يدفعها الفزع، بحثت عنه في كل مكان بالبيت ولم تجده، انقبض قلبها الذي لم يعرف الانقباض يوما، شعرت أنها على شفا الهاوية، طار صوابها وهي تبحث عن هاتفها وتبكي بينما كفاها ترتعدان .
أجفله صراخ الهاتف وهو يجفف رجله من أثر الشاي الحارق، فرمى المنشفة ورد بلهفة :
- أمي !
- رائف يا حبيب .
- ما به ؟
- ليس هنا، قلبي يحدثني أنه في خطر .
- أنا أيضا أشعر بهذا، سأحدث طارق الآن .

ساعتان تفيضان توترا، يفرض العجز فيهما قوته، يرضخ له الجميع بسخط، فحبيب عاجز أن يصل للبلدة ففي تلك الساعة قد توقفت حركة السيارات ولن تعد إلا في الصباح، وأمه لا تدري في أي اتجاه تذهب وفي أي طريق تبحث، ارتدى ملابسه ليغادر، فالبيت لا يطاق بينما العجز يحيط به والقلق يهدده، لم يخطر بباله سوى أنه بحاجة إليها، إلى حضنها الذي يخفف عنه كل أسى، لم يعد قادرا على الصمود فغادر مسرعا .

نائمة في فراشها يتفصد العرق من جبينها، وتتسارع أنفاسها بضيق وتكاد رئتيها تصرخ مطالبة بحريتها خارج قضبان صدرها، صرخت من أعماقها ليلتف كل من في البيت حولها، وتتحد الأكف الصغيرة في احتضانها لتهدأ، تلقاها صدر أمها الحاني، فسكبت من فيضان دموعها رغبة في درء هم لا تعرف مصدره، وبينما تحمل أمها كوبا من عصير الليمون لها لتهدئها كان إصبعه يضغط زر الجرس، فيصرخ هو الآخر معلنا أن خبرا قاتما يطرق الأسماع بعد قليل .
- حبيب !! تفضل .
دخل بدون كلمة فأشارت له على باب غرفتها، فسبقها للداخل لتصدمه رؤياها تبكي وإخوتها متحلقون حولها يحتضنون فزعها ويربتون على كاهلها المثقل همًّا، انطلق ناحيتها يحضنها وكأنه نيرانه حضنت شلالا هادرا فانطفأت، ربت على ظهرها بينما كفه الآخر يمسح دموعها، ناولتها أمها كوب المشروب :
- اشربي يا حبيبتي، لا تجزعي مجرد كابوس وانتهى .
نظرت له متسائلة إذا كان انتهى حقا أم أنه بدأ، فأخفض ناظريه محاولا الهرب من الإجابة، فكابوسه القاتل يجثم فوق صدره ولا مجال له ليتحرر إلا عندما يرى رائف بعينيه.
- ماذا بك ؟ ماذا حدث ؟
- لا شيء، فقط افتقدتك ولم أعد أقوى على البعد عنك .
- لمَ أشعر أنك تخفي شيئا ؟
- لأني لا أعرف حقا ما يقلقني، لقد اختفى رائف ولا أستطيع أن أصل للبلدة حتى الصباح، أشعر بالانكسار .
- لا تقلق ربما هو عند أحد أصدقائه .
- لم يكن له أصدقاء غيري، لقد خذلته .. ليتني ما تركته هناك .
- دعني أخبرك شيئا، لنا جار سائق، سيذهب إلى ناحية بلدتنا الليلة مع بعض الناس مدعوين لحضور زفاف، ربما يقرب مسعاك، فقط طمئني حين تصل .
- لقد أزلتِ هما عن قلبي .
هنا تكلم عمر :
- سأذهب وأخبر الجار أن ينتظرك .
انصرف إخوتها من الغرفة وبقيا وحدهما، تلاقت النظرات تلوم وتعتب وتئن من الفراق، وما بين نظرة وأخرى تنزلق دمعة فيمسحها كف أو تتلمسها أنملة .
- لن أقسو في عتابك برغم قسوتك معي، ولكني اعتدت نيران شوقي إليك وألفتها، ولن يضيرني هجرك أكثر حتى لو زدته لألف عام، وتذكر جيدا أني منحتك فرصة سابقا ورفضت استغلالها .
- لست مخطئا بعكسك، أنت من تحديتِ رجولتي ولم تحسبي حساب يوم أصدم فيه بتصرفك .
- لن نجنِ شيئا من رمي بعضنا البعض بالاتهامات، اذهب أولا لنطمئن على رائف وبعدها من حق حديثنا أن يقال وربما عتابنا يطول .
- سأنصرف الآن وعندما أعود لنا حديث .

قبور ناعمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن