الفصل السادس

87 5 0
                                    

#قبور_ناعمة

حين يصحو الأمل وتزهر الأشجار، وحين تشرق شمس الحياة بعد طول غيابها، يكاد ينشق قلبك من الفرح، وتنسى أنك ما زلت على وجه الدنيا، وما الدنيا سوى صعود وهبوط، فتغيم السماء وتعود الدنيا لطبيعتها القاحلة، تشعر أن روحك تنسحب، وأن كل هموم العالم جثمت فوق أنفاسك، وكأنك لأول مرة تختبرها برغم أن حياتك كلها قبل هذا كانت في ظل الغيم .
شاركتها أم حنين غرفتها، حتى أنها احتلت الفراش، وتعالى صوت شخيرها الحاد، وبرغم الأرق ظلت في الفراش تحاول أن تتحمل، فلم تكن معتادة أن تخرج من غرفتها ليلا، بالرغم من تطور علاقتها للأفضل مع حبيب، إلا أنها كانت تفهم جيدا أنها مجرد خادمة له، وإن لم تستطع الطهي فهي تنظف وتغسل ملابسه، لم تستطع يوما أن تنس كلمات أم حنين عن اتقاء الإنجاب منه، وحينما تبدأ في النسيان تحضر دواء منع الحمل، وتضعه أمام عينيها حتى لا تضلل نفسها، فعلى كل حال هي الآن أفضل، ستتعلم في مدرسة المدينة، وتنهي دراستها الثانوية دون أن تكون عبئا على والدتها، وها هي تطعم أفضل طعام بغض النظر عما تطهوه فتفسده، وربما حين تتعلم بالجامعة تستطيع جلب أمها و إخوتها في المدينة، بعيدا عن هجوم والدها الضاري، وترتاح أمها بعد سنوات الشقاء .
- ماذا حدث ؟ استيقظتِ وحدك بدون صياح كل صباح !!
- كلماتك تجرح شعوري .
قالتها وهي تقضم شفتيها، كعادتها حين تتوتر، ضحك وهو يمسك بشعرها :
- أجرح شعورك ! إن حنجرتي تُجْرح كل يوم صباحا ولم أشكُ يوما .
- سأحضر لك الإفطار .
لم تشاركه الضحك، وجهها ليس مرتاحا، ذهب وراءها للمطبخ :
- هل حدث شيء يضايقكِ ؟
- لا، ولكن أم حنين لم تكف عن الشخير طوال الليل فلم أنم .
صدحت ضحكته حتى جاءت أم حنين من الداخل :
- صبحك الله بالخير يا أستاذ حبيب .
- صبحك بالعافية، تعالي لنجلس ننتظر الإفطار .
- سأساعدها حتى تنتهي من ارتداء ملابسك حتى لا تتأخر .
- حسنا، على الأقل اليوم سنفطر باكرا، أو سنفطر فعلا .
لوت فمها كالأطفال، وتابعت إحضار بعض الطعام من المبرد، بينما أم حنين تساءلت باستنكار بعدما غادر :
- هل كنت لا تحضرين له طعام الإفطار؟!
- بالطبع كنت أحضره، في حدود معرفتي، عليكِ أن تعلميني كل شيء قبل أن تعودي للبلدة .
- هل أنت لا تعرفين الطهي ؟
- بلى، لكن قليلا .
- وماذا كنتما تأكلان قبل أن أحضر؟
- كنا نأكل السمك فأطبخ الأرز ويبتاع هو السمك مشويا، كنت أحمر له بعض الكفتة الجاهزة و أجهز السلطة، أشياء من هذا القبيل .
خبطت المرأة صدرها بصدمة :
- وأنا التي كنت مطمئنة أنكِ ستقومين بكل شيء، سيكون أسبوعا طويلا .
استدارت هالة وابتسمت بلؤم وهي تقول في نفسها :
- فعلا، سيكون طويلا جدا حتى ينتهي .

ذهبت للعمل مرة أخرى برغم ذراعها لم يطِبْ بعد، تحاملت على نفسها، وعادت آخر اليوم ببعض الطعام لأطفالها، مع كل لقيمة تتدلى دمعة، كانت تطمئن على أطفالها طوال اليوم لأن أختهم الكبرى كانت تجلس معهم، تحادثهم وتلاعبهم، وتطعمهم ما تستطيع، الآن نهبها قلقها طوال اليوم لأنهم بمفردهم، وعادت لتجدهم في الحارة، متسخين وجياع، ينتظرونها وقد نام عمر الصغير على كتف أخيه من التعب، بينما توأمته هند والتي تشبه هالة متكورة حول نفسها تبكي من الجوع، ذكرتها بأختها حين كانت تقلق و تحزن، قلبها هناك مشتتا في أثر الغائبة، كانت تقسم معهم قطعة الخبز بسعادة، فقط كانوا أمام عينيها، فكيف تطمئن على صغيرتها؟
باتت ترتب الأفكار في ذهنها، فقد حثت نفسها لتتحرك، لم تكن لتبيع طفلتها مهما كان الأمر، هي فقط تريد أن تطمئن عليها أو تراها، فكرت أن تعود لرائف، ولكن كرامتها أبت، فذاك المراهق ينقدها مالا، وربما يظن أنها تعود من أجل المال لا ابنتها، قررت الذهاب للعم حسان كبير الحارة، ربما تدخل لدى حبيبا وأقنعه أن يعطيها فرصة لتدافع عن نفسها أو حتى تسمع صوت ابنتها عبر الهاتف.
- جئت لك لأن لا أحد لي سواك بعد الله .
مد الرجل يده في جيبه ليخرج لفافة نقود، لكنها فردت كفها تدفع به يده :
- لا، ما جئت لهذا .
- خذيه فأنتِ مريضة الآن ولن تستطيعي العمل .
- لا، إنني أعمل الآن، الحمد لله أصبحت أفضل، أنا فقط أريد أن أوسطك عند زوج هالة ابنتي حتى يوافق أن أراها أو حتى تحادثني في الهاتف .
- اشرحي لي ما الأمر وسأفعل ما أستطيع بإذن الله .
- سأقص لك أولا كيف تزوجته، حتى تستطيع مساعدتي .

قبور ناعمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن