الفصل السابع عشر

70 5 0
                                    


كالماء يغرق العطشى والموت يسبق الارتواء، كالصخر يشج رؤوس الغرقى فيزيد على الغرق البلاء، تضج جنبات وادي الفكر فتضّيق الصدر صباح مساء، كل هذا الهم يتكاتف على القلب باستعلاء.
مضت أيام وهو على صمته، غادر غرفتهما وانعزل بنفسه، كل همومه تجسدت ومهدت الواقع بالسواد، ضاق من تحركات أمه ضده وتظن أنها تحميه، وضاق من عدم طاعة زوجته وقد ظن أنها الوحيدة التي تطيعه، ضاق من تعبه سعيا في الحياة والحياة لا تريحه، لقد ظن أنها مأواه وواحته في جدب صحراء دنياه الحارقة، ولكنه وجدها تخفي عنه المزيد، يطل شيطانه في عينيه بتشف قاهر وينبئه أنها وقد تجرأت عليه فهناك إذن المزيد !

بينما هو غارق حتى أذنيه في أحزانه، مستسلما لشياطين فكره، كانت هي تقف كل بضع دقائق على الباب تدقه راجية صفحه طالبة محادثته، ليس عدلا أن يحكم عليها دون أن يمنحها فرصة للدفاع عن نفسها، حتى فكرة موضع الاتهام هذا ضد كرامتها، موضع المذنب ارتضته حتى تنال صفحه وها هو يرفض حتى دفاعها، ينكر عليها ما تفعل وكأنها ملكية خاصة لا تمتلك أيه حرية، هل مازال ينظر لها كخادمته ؟! هل هو باق على رأيه كارها وجودها ؟! لامت نفسها وأنبتها بعد أن وثقت به وربطت مستقبلها بحياته، لامت إحساس الأمان الذي ألفته بقربه، وحملته ذنوب فكرها عن انهيار حياتها، كسا الحزن ملامحها واضطربت، فخطت له رسالة وضعتها على المنضدة وجمعت ملابسها وغادرت، ذهبت إلى والدتها ولم تنطق بحرف، خاصم جوفها الطعام، وأبت نفسها الشراب، فذبلت في أيام كذبول سنوات، وكلما تأخر ازدادت ذبولا، كانت تظن أنه سيقرأ خطابها ويذهب في أثرها ولا يدعها تنزوي بعيدا عنه، ولكن للآن لم يأتِ أو يسأل عنها .

- كيف حالك يا هالة ؟
- أنا بخير لا تقلقي يا هبة، فقط أريد أن أطمئن على حبيب، هل هو بالبيت ؟
- لست أدري هو موجود أم لا .
- أقصد هل يذهب عمله صباحا ويعود في المساء ؟
- رأيته أمس وهو عائد من العمل .
- هل يبدو بخير ؟
- نعم، هل تحدثتما ؟
- لا، لم يُرِدْ محادثتي وحتى لم يرد إعادتي .
- أنتِ من تسرعتِ بقرار مغادرتك، كان من الأولى أن تظلي حتى يحدثك، لم يكن عليك مغادرة بيتك من أجل أي خلاف كان .
- كرامتي أتعبتني يا هبة، لقد رفض تماما حتى النظر بوجهي .
- مهما يكن، هذا ليس مبررا .
- ماذا أفعل ؟ هل أعود للبيت قبل أن يأتيني ؟
- حبيب ليس سيئا، لكن لنقل أنك لابد أن تعودي معه، يمكنك أن تعودي لتأخذي كتابا ما أو أي غرض نسيتِه .
- غدا سأفعل .

قبل موعد عودته بقليل ذهبت لتحضر كتابا ما، دخلت من الباب تحتضن عيناها كل الموجودات، فهنا جلس حبيب إلى جوارها، وهنا ارتوت حنانا من لمسته، وهناك ضمها لتتوحد كياناتهما معا، في هذا البيت أصبح أحدهما للآخر كل شيء. لم يمض وقت كثير حتى حضر، لمح وجودها وتجاهلها ودخل لغرفته، آلمها صمته وتجاهله، ليته حتى يصرخ بوجهها ليفتح بابا للعتاب، ذهبت إلى باب الغرفة ودقتها ربما للمرة الألف، صرخت بيأس :
- ربما هذه المرة إن ذهبت فلن أعد .
أتاها الصمت ردا ذبح روحها ببرود، فانصرفت كسيفة البال محطمة القوى، غادرت هذه المرة يلفها اليأس، كان عقلها غائما بينما قدماها تنهبان الطريق، هربت من صده وعناده، هربت بباقٍ في كرامتها التي أهدرها ولعنت نفسها أنها قلقت عليه، لعنت حبها له الذي جعلها تتمنى نظرته، لعنت الضعف الذي استولى عليها وأذلها أمامه .

قبور ناعمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن