الفصل الخامس

84 4 0
                                    

#قبور_ناعمة

ذاهلة عن كل ما يجري، تغير عليها الزمان والمكان وهي لا تدري، أنهت جمع متعلقاتهما بينما تسبح في دموعها، حاولت الدفاع عن أمها ولكنه لم يترك لها متنفسا لتخبره، وجدت أم حنين تقف متوارية على السلم تشاهد ما يحدث حين صعد ممسكا بها يجرها جرا، كرهت الحياة ومن فيها، لعنت نفسها، سبت حظها العاثر، لم يفلح تمردها على معاملته فقد عاملها بشكل أسوأ وازدادت عصبيته، دفعها دفعا أمامه حتى ركبت السيارة لتغادر بلدتها لأول مرة، لم تقتن صورة لأمها أو أحد من إخوتها، حتى آخر ذكرى مليئة بالمنغصات، فمنظر أمها والكدمات تغطي وجهها وذراعها المكسور، لا ينفك يغطي عينيها كل حين مؤنبا إياها أنها السبب فيما عانته أمها . وكأن عينيها لا ترى، دخلت بيته الذي استأجره في المدينة، شقة صغيرة من غرفتين، أثاثها بسيط، تحتوي الأساسيات فقط، بالطبع بالنسبة إلى ما نشأت فيه يعد قصرا، إلا أنها لم تأبه لشيء، فلم تشغل عينيها أي ملامح منها، قذفها قذفا داخل حجرتها مع حقيبة ملابسها، وأغلق الباب وذهب، بينما هي جلست متكورة على الفراش، لا تفكر في شيء سوى ما حدث لها منذ مجيء والدها .
مضت عليها الساعات، استولى النوم عليها ولم يبتلع دموعها فتركها تنزلق بحرية، كما انزلقت هي في مجلسها فمالت جانبا على نفس وضعها، ألقى عليها نظرة خاطفة وغاضبة أيضا، ثم انصرف خارجا، عاد بعد بضعة ساعات يحمل في يده أكياسا، أثار تعجبه أن البيت ساكن، ذهب لغرفتها فوجدها كوضعها حين تركها، بدأ الشك يعتمل في صدره، ارتبك خوفا من فكرة أن مكروها حدث لها، اقترب واضعا أصبعه أمام أنفها فأحس بها تتنفس، هز كتفها برفق، لكنها لم تتحرك، هزها بقوة أكثر قليلا ولم ترمش أجفانها أيضا، استولى الفزع على قلبه، ماذا بها يا ترى ؟ وبدأ ضميره يصفعه مع كل فكرة، ويداه متآزرتان في هزها لعلها تفيق، جعل يقف ويتحرك بغير هدى، ثم يرجع ثانية إليها يناديها ولا استجابة، أخذ يبحث عن هاتفه ليحضر طبيبا :
- السلام عليكم .
- وعليكم السلام .
- أنا جارك الجديد في البيت المجاور، كنت أعطيتني رقم هاتفك للطوارئ .
-  نعم، أتذكرك، ماذا أستطيع أن أقدم لك ؟
- لقد .. لقد .. إن زوجتي لا ترد .
- ربما كانت نائمة .
- لا ليست نائمة، أنا أوقظها منذ أكثر من نصف ساعة، ولم تتحرك حتى .
- لا تقلق، سأحضر في دقائق .
في انتظاره للطبيب لم يستطع الجلوس أو الوقوف أو فعل شيء، فجعل يدور كحبيس ينتظر حكما بالإعدام، يهزها ثم يناديها، ثم يصرخ بها، حتى أتاه صوت جرس الباب، والذي بدا له أنه انتظره طويلا :
- أهلا بك، تفضل .
هكذا استقبله، لم يعطه فرصة لينطق حرفا، بل جذبه جذبا حتى فراشها، مد يده ليحرر ساقيها ويفرد جسدها على الفراش، وبدأ الطبيب عمله، مضت الثواني ثقالا، والقلق احتل وجهه ونبضه، أخذ يلوم نفسه، ماذا كان سيخسر إن أتاح لها فرصة لتشرح ما تريد، ربما كان أقنعها بهدوء بما يراه .
التفت له الطبيب :
- لم كل هذا القلق ؟
- ما بها ؟
- لا شيء، فقط نائمة .
- نائمة !! لقد صرخت بها وهززتها، لقد غيرت وضع نومها أكثر من مرة، وتخبرني أنها نائمة !! فقط نائمة !
ضحك الطبيب :
- عندك قهوة ؟
ارتبك وبانت على وجهه أمارات الخجل، فلهفته وخوفه ألهياه عن تقديم الضيافة للرجل، فهذه أول مرة يدخل بيته :
- بالطبع عندي، ثوانٍ وأحضرها، تفضل .
أجلسه بعدما خرجوا من غرفتها، وأعد القهوة في دقائق قليلة :
- تفضل .
- زاد فضلك، اجلس لنتحدث .
جلس صامتا ينتظر حديث الطبيب الذي رشف من القهوة قبل أن يبتسم وهو يحادثه :
- أنتما حديثي الزواج، أليس كذلك ؟
- بلى، تزوجنا منذ بضعة أيام .
- ربما لم تنم هي جيدا منذ ذلك الحين، فسقطت في نوم عميق لحاجتها له، أو ربما حدث ما يضايقها فهربت منه للنوم .
- بالفعل، لقد كنا صباحا على خلاف بسيط، لكني لم أعتقد أنها ستصبح هكذا .
- ربما هي بالأساس نومها ثقيل، أنت فقط لم تعرفها جيدا بعد .
- هل أنت متأكد ؟
- نعم، فكل شيء على ما يرام، عليك فقط أن تهدأ وتدعها تأخذ قسطا جيدا من النوم .
نهض لينصرف بعدما طمئنه، فقرر أن يبدأ العمل في البيت ويتركها لتكمل نومها، أفرغ الطعام في أماكنه، وتناول شطيرة للعشاء، وذهب للنوم، فباكرا يومه الأول بالعمل .

قبور ناعمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن