الفصل الحادي عشر

88 6 1
                                    

#قبور_ناعمة

تمر الحياة بين تقدم ورجوع، وربما ما تعبت في زرعه قد لا تستطيع حصاده، ما استكان بداخل القلب يوما يتسبب بإحراقه .
مر أسبوع وهو لا يراها، يعود من العمل فيطعنه سكون البيت، ومائدة الطعام مغطاة عليها وجبته كقتيل وجب له الدفن، يتناول طعامه كتلقي العزاء، يبحث في المطبخ فيجدها لا تأكل إلا أقل القليل، أصبحت تطهي الطعام أفضل، ولكن ما فائدته بلا حديث بينهما، بلا حتى شجار كعادتهما حين يجد الطعام محترقا، أو زائد الملح، لم يعد يحتمل، عيناه تتحرقان شوقا للاكتحال برؤيتها، دق باب غرفتها، نادى باسمها مرة بعد مرة، فتح باب الغرفة ودلف بهدوء هامسا :
هالة .
مد يده برفق ليهزها، إلا أنه تراجع قليلا تاركا لعينيه ارتياح النظر لتقاسيم وجهها الذي اشتاق له، يعلو وجهها الذبول، بقايا دموع سخية على وجهها ورموشها، تنهد ناظرا لشعرها المجنون الذي يحيطها كهالة القمر تحيط به، جلس على طرف الفراش ومسح بكفه على وجهها، ناداها برقة، ثم ابتسم وهو يتذكر المرات التي صدح صوته يناديها صباحا لتستيقظ، كم استوحش الحياة بلا وجودها، تأكد في هذا الأسبوع أنه يشتاق لها لا لعنايتها به .. يشتاق لها هي في شخصها، وابتسامتها، ومشاغباتها، حتى ذلك الطعام الذي كانت تتلفه أحيانا عن عمد وأحيانا أخرى عن جهل بالطهي .
فتحت عينيها بضعف نظرت له ثم أغلقتهما مرة أخرى، ضحك ومال على جبهتها وقبلها فانتفضت قافزة على ركبتيها فوق الفراش :
ماذا أتى بك إلى هنا ؟
جئت لأراكِ، طالما أخفيتِ نفسكِ .
ولمَ لمْ تدق الباب وأنت بالخارج ؟
ضحك وهو يطارد خصلة شاردة من شعرها ويداعبها بإصبعه :
وهل استيقظتِ حين طرقت الباب وصِحْتُ باسمك عدة مرات ؟!
خجلت من تلميحه باستغراقها في النوم، ولكنها حاولت ألا تظهر ذلك وفشلت حين غمز لها بعينه قائلا :
اكتشفت الآن طريقة سريعة لإيقاظك .
مازلت غاضبة منك .
أنا أيضا غاضب، لقد خالفتِ تعليماتي، وبدلا من الاعتذار تخاصمينني وتقاطعين الطعام .
لن أستطيع أن أستمر في شروطك القاسية .
لمَ تسمينها شروطا قاسية ؟ بعد أقل من شهر ستبدأ الدراسة ولابد أن تركزي على دراستك .
هل قبلت المدرسة ملف أوراقي ؟
نعم، ونريد الخروج لشراء الزي المدرسي ومتطلبات الدراسة .
قفزت وهي تصفق وقد عرفت الابتسامة طريق شفتيها أخيرا :
متى ؟
الوقت تأخر اليوم، غدا نخرج معا .

خرج عصفوري الحب وتناولا عشاءهما بالخارج بعد شراء متطلبات الدراسة، عادا ليصطدما بأم حنين تجلس على الدرج تنتظرهما، ذبلت الضحكات على ثغريهما، واستولت الصدمة عليهما، لقد أعادتهما رؤيتها إلى تلك الفترة الأولى في زواجهما، فتذكرت هالة شرط عدم الإنجاب، وتذكر حبيب تلك الحرب الخفية بين أمه وبينها، وتذكر أباها المتربص .
السلام عليكم .
وعليكم السلام، انتظرتكم كثيرا .
كنا نبتاع احتياجاتنا، ولم تخبرني أمي بقدومك .
قالها وهو يحمل حقيبتها للداخل فتبعته وهي تنظر لهالة بعمق وتساؤل، أخرسها وجود الماضي يطل من عيني أم حنين، يذكرها بأنها مؤقتة، يذكرها أنها هاربة من جحيم الفقر، يذكرها ويذكرها بكل ما غاب في لحظات الصفا عن عقلها الصغير وقلبها الغض، دخلت غرفتها بلا حرف، ووضعت ما ابتاعه من أجلها في الخزانة، جلست صامتة على الفراش تنعى تلك اللحظات الخاطفة من السعادة التي لم تكتمل .
دخلت أم حنين الغرفة ووجهت لها الحديث :
أراكِ نسيتِ أمر ما نبهتُكِ إليه .
لمْ أنسَ شيئا، أنا فقط كنت أستعد للدراسة .
رأيتُ في عينيكِ شيئا خِفتُ أن تقعي به .
لم أقع بشيء، لم أنسَ أني هنا خادمة أفر من فقر أمي وبؤس إخوتي .
ربتت على ظهرها بحنان :
يا ابنتي، أخشى أن ينجرف قلبك لحبه، ويستبدلك يوما بمن تختارها والدته، وأنت أمل أمك في الحياة لكِ وإخوتكِ، أنا أحدثك من جهتك وجانبك، فأنا مثلك ونحن لهم خدم لا أكثر .
هبطت دمعتان حارتان هبطت معهما عيناها وقلبها .

قبور ناعمةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن