وصلت إلى دار الرعاية..من جديد ، وقد أحسنت إلي المديرة بأن استقبلتني وقبلت عودتي للتدريس مقابل منحة بسيطة، كنت أعزم على السفر لعمي بفرنسا لكن كل مراسلاتي السابقة لم تأتي بأي جواب، لذلك طلبت المساعدة من زميلي الأخ كريم، فمعارفه واسعة ولن يتوانى عن تقديم يد العون لي، إلى ذلك الحين لا بأس سأرضى بكفاف العيش هنا ولن أسمح لقلبي بالحنين.
"لن أسمح لقلبي بالحنين" مجرد كلام لا أكثر..عبارة تنطقها الشفاه ولا يوافقها القلب... فالنار التي التهبت في صدري لن تطفئها أية دموع، يقهرني اشتياقي، أجلس لساعات أتذكر كلامها الحنون،اهتمامها الدقيق بي، حركاتها العفوية، لمساتها الدافئة، أغمض عيني وأستشعر عطرها، رائحتها، أنفاسها...كانت الفرح الوحيد الذي أدركته في حياتي، ذرة واحدة من السعادة في قنطار من المرارة...أنظر إلى الباب كل ليلة وأتمنى أن تطرقه ..لكنها لا تفعل.
كان الشتاء قارس البرودة، اضطجعت على السرير ملتفة في لحافي أستمع لقطرات المطر تنخر السقف بقوة، وفجأة سمعت طرقا مستمرا على الباب رافقه صوت نداء فجر.. فجر ..هرعت لأفتح... لم أصدق ما أرى..كانت تقف أمامي بوجه شاحب ومتعب، تنظر إلي بأسف شديد، لقد أتيتك حبيبتي،، ساحرتي الصغيرة اشتقت إليك كثيرا يا نبضي...
وقفت مشدوهة أنظر إليها، لكن الطرق ظل مستمرا على الباب ومعه نفس النداء فجر فجر..وكلما ارتفع النداء تلاشى طيف أميرة من أمامي في الهواء...استيقظت فزعة.
كانت زميلتي بالدار، تخبرني أن كريم يريد التحدث إلي ..لديه أخبار جديدة عن عمي...نزلت الدرج، لأجده في ردهة الدار ينتظر، بادر بالكلام دون أن ينظر لوجهي، حسنا يبدو ان لدينا اخبارا جديدة ومؤكدة، آسف لهذا لكن عمك قد فارق الحياة، تجدين هنا كل المعلومات حول مكان عمله وإقامته الأخيرة، آسف لا يمكنني فعل المزيد. تعازيا الحارة.
- شكرا لك ..لقد ساعدتني فعلا ....أشكرك مرة أخرى.
وهكذا انطفأت أحلامي الواحدة تلو الأخرى، شعرت بغصة كبيرة في حلقي، احتجت لملء صدري بالهواء، اتجهت للخارج وجلست على كرسي بجانب الدار، تاركة الأمطار تنهمر فوقي لعلها تغسل ما في قلبي من هموم، وتطفئ ما صدري من اشتياق، رفعت وجهي للسماء لتمتزج دموعي بحبات المطر، يارب ابراهيم الخليل اجعل هذه النار في قلبي بردا وسلاما.
أسابيع بئيسة قضيتها تحت وطأة الحزن ولوعة الشوق، أي حب هذا الذي يستبيح فيه المرأ كل هذا الغياب عن محبوبه، لم تكلف نفسها حتى عناء السؤال إن كنت بخير.
عاد الربيع أخيرا، وعاد معه دفء الشمس وابتهاج الأطفال، وبعض الأمل في رسالة مختومة من خارج البلاد.
لقد ردوا أخيرا على مراسلاتي ،"نعلمكم أن السيد أحمد عزاوي قد أوصى بكل ما ترك من ثروة لابنة اخيه الوحيدة السيدة فجر عزاوي، نرجو من حضرتكم التقرب لإتمام الإجراءات القانونية والإدارية اللازمة في أسرع الأوقات..تقبلوا تحياتنا".
انتشر خبر الميراث في الدار كالنار على الهشيم، انشرحت الأسارير وتغيرت الوجوه والمعاملات، أضحيت الآن فقط في نظر "فقراء النفس" أستحق الاحترام.
جاء الأخ كريم سريعا ليعرض مساعدته، لابد أنك تحتاجين من يساعدك على تحصيل حقوقك آنسة فجر، أنا مستعد للتنقل من أجل ذلك، سأنجز كل المعاملات الإدارية عنك إن أردت.
وفي حين أني كنت أفكر في طريقة للسفر، ضل يكرر عرضه علي لمرات عديدة.
لقد كلمني بشأنك أنسة فجر، قالت مديرة الدار، إنه شاب خلوق وخدوم، يود الزواج بك، أنا أرى أن في ذلك خير لك، فسيتولى عنك شؤونك وتعيشين في هناء، أنت فتاة يتيمة وبحاجة لرجل يحميكي.
رجل يحميكي، ظلت تلك العبارة ترن في رأسي على مدى عدة أيام، أي مستقبل ينتظر فتاة يتيمة ومثلية في مجتمع عربي، أربع أسباب، كل سبب بمفرده كفيل بالقضاء على كل الأحلام، ففي وطني مجرد كوني أنثى يحطم نصف الطموحات، فمابالك أني مثلية ويتيمة، ومع اهتزاز ثقتي بالحب بعد تجربتي الوحيدة المريرة........قررت أن أوافق على عرضه.
....يتبع
